بالرُّجوع إلى رواية عائشه المتقدِّمة (1) نستطيع إزالة الإشكال وإنهاء التَّعارض. ونصُّ رواية عائشه: كان الأعراب إذا قدموا على رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم - سألوه عن السَّاعة: متى السَّاعه، فينظر إلى أحدث إنسانٍ منهم فقال: " إنْ يَعِشْ هَذَا لَمْ يُدْرِكْهُ الهَرَمُ، قَامَتْ عَلَيْكُمْ سَاَعَتُكُمْ ".
فاَلرَّسول - صلّى الله عليه وسلّم - كان يُخبر كلَّ قومٍ عن ساعتهم فالسَّاعة هنا لا يُراد بها العامَّة، وإنَّما السَّاعة الخاصَّة بهم، وقد نقل النَّوَويُّ (2) عن القاضي عِياضٍ أنَّه قال: هذه الرِّوايات كلُّها محمولةٌ على معنى الأوّل، والمراد بساعتكم: موتهم، ومعناه يموت ذلك القرن أو أُولئك المخاطبون.
ويؤيد حديث عائشه هذا رواية أبي يَعْلى الّتي تقدَّمت قبل قليلٍ عن أنس قال: كان أجرأ النَّاس على مسألة رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - الأعراب، أتاه أعرابي فقال: يا رسول الله متى السَّاعه؟ فلم يجبه شيئاً، حتّى أتى المسجد، فصلّى، فأخفَّ الصَّلاة ثمَّ أقبل على الأعرابيِّ وقال:" أيْنَ السَّائل عَنِ السَّاعة"؟ ومرَّسعدٌ فقال رسول الله- صلَّى الله عليه وسلّم-: " إنْ هذا عُمِّر حتَّى يأكل عُمُرَهُ لَمْ يَبْقَ مِنْكُم عَيْنٌ تَطْرِف".
فهذا الرِّواية - على ضعفها اليسير - تؤيِّد رواية عائشه، وتبيِّن أنَّ المراد بالسَّاعة ساعة القوم أو الرَّجل السَّائل فحسب، وهذا كافٍ في إزالة التَّعارض دون طلب وجوهاً أُخرى للحديث. ومع ذلك فلا بأس من إيراد وجهٍ ذكره النَّوَويُّ -وهو مستبعدٌ-وهو قوله: " ويحتمل أنَّه علم أنَّ ذلك الغلام لا يبلغ الهرم، ولا يُعمَّر، ولا يُؤخَّر ". وهذا التَّأويل من النَّوَويِّ صادرٌ عن فهم المراد، بالسَّاعة ساعة النَّاس أجمعين، لا من سألوا فحسب، وهو بعيدٌ والله أعلم.
أمَّا عن التَّعارض مع أُمور ماضيةٍ فمثاله ما رواه مُسلمٌ (1) عن ابن عباس قال: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سُفيان ولا يقاعدونه، فقال للنَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم -: يا نبيَّ الله، ثلاثٌ أعطِينِهُنَّ، قال: " نَعَم "، قال: عندي أحسن العرب وأجمله، أُمُّ حبيبة بنت أبي سفيان أُزوجكها، قال: " نَعَم "، قال: ومعاويه تجعله كاتباً بين يديك، قال: " نَعَم " قال: وتُؤَمِّرني حتَّى أُقاتل الكفَّار كما كنت أُقاتل المسلمين. قال " نَعَم ".
ففي هذا الحديث إشكالٌ لا يخفى مع حوادث ماضيةٍ، تخصُّ زواج النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - من أمِّ حبيبة بنت أبي سفيان، إذ المعروف أنَّ أبا سفيان لم يُزوِّجها للنَّبيِّ، لأنَّه أسلم عام الفتح، وهي من المهاجرات إلى الحبشة وزواجها كان في ذلك الوقت - أي وقت الهجرة إلى الحبشة -.
وذكر النَّوَويُّ (2) هذا الاستشكال ونقل عن القاضي عِياض أنَّه قال: والّذي في مُسلمٍ هنا أنَّه زوَّجها أبو سفيان غريبٌ جداً، وخبرها مع أبي سفيان حين ورد المدينة في حال كفره مشهورٌ ".
وقال ابن حَزْمٍ (3): هذا الحديث وهمٌ من بعض الرُّواه، لأنَّه لا خلاف بين النَّاس أنَّ النَّبيَّ-صلّى الله عليه وسلّم- تزوَّج أُمَّ حبيبة قبل الفتح بدهرٍ وهي بأرض الحبشه وأبوها كافرٌ، وفي رواية عن ابن حَزمٍ أنَّه قال موضوعٌ: قال والآفة فيه من عِكرمة بن عمَّارٍ الرَّاوي عن أبي زَميل.
قال النَّوويُّ (4):وأنكر الشَّيخ أبو عَمرو بن الصَّلاح - رحمه الله - هذا على ابن حَزمٍ، وبالغ في الشَّناعة عليه، قال: وهذا القول من جسارته، فإنَّه كان هَجُوماً على تخْطِئة الائمَّة الكبار وإطلاق اللِّسان فيهم، قال: ولا نعلم أحداً من ائمة الحديث نسب عِكرمة بن عمَّار إلى وضع الحديث ....... وما توهَّمه ابن حَزمٍ من مُنافاة هذا الحديث لتقدُّم زواجها، غلطٌ منه وغفلةٌ لأنَّه يحتمل أنَّه سأله تجديد عقد النِّكاح تطييباً لقلبه لأنَّه كان ربَّما يرى عليها غضاضةً من رياسته ونسبه إن تزوَّج بنته بغير رضاه، أو أنَّه ظنَّ أنَّ إسلام الأب في مثل هذا يقتضي تجديد العقد.
¥