وهذا الهجوم من ابن الصَّلاح - رحمه الله - على ابن حَزمٍ غير ذي سببٍ، إذ أنَّه لا ضير أن يكون هذا الرَّاوي أو ذاك وَهِمَ أو أخطأ، وليس هذا مما يحطُّ من قدرهم إن كانوا من أهل الثِّقة والعدالة، لأنَّ الثِّقة قد يَهِمُ ويُخطيء - كما قدَّمت -. وبخاصَّةٍ أنَّ التَّاريخ يساعد من رفضوا هذا الحديث درايةً ولهذا كان ميل المحقِّقين من العلماء إلى تضعيف هذا الحديث.
قال الأُبِّيُّ (1): وإذا صحَّ أنَّه تزوَّجها قبل الفتح فيكون ما وقع في هذا الحديث من طلب أبي سفيان أن يزوِّجها بعد إسلامه خطأً ووهماً، وقد بحث النُّقَّاد عمن وقع ذلك الوهم منه فوجدوه وقع من عِكرمة بن عمَّار.
قال ابن الجَوْزي (2): اتهموه بذلك، وقد ضعَّف أحاديثه يحيى بن معين (3)، وابن حَنْبل (4)، ولذلك لم يُخرج عنه البُخاريُّ، وإنَّما خرَّج عنه مُسلمٌ لأنَّه قال: فيه يحيى بن سعيد، هو ثِقَةٌ، وقال الحافظ علي بن أحمد: هذا حديثٌ موضوعٌ لا شكَّ في وضعه، والآفة فيه من عِكرمه بن عمَّار.
قال بعضهم: ومما يحقِّق الوهم فيه قول أبي سفيان: " أُريد أن تُؤمِّرني " قال: ولم يُسمع قطُّ أنَّه أمَّره إلى أن توفي، وكيف يُخلف رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - الوعد؟ هذا مما لا يجوز عليه " (1)
وقد ردَّ النَّوَويُّ - رحمه الله - على ابن الصَّلاح تأويله للحديث فقال (2): " ليس في الحديث أنَّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلّم - جدَّد العقد، ولا قال لأبي سفيان إنَّه يحتاج إلى تجديده " ولهذا فردُّ الحديث بالوهم أولى من تأويله بالمُسْتَكْرهِ من الوُجوه كما قال العَلائِيُّ (3)، وهو الذي ترتاح إليه النَّفس ويطمئِنُّ إليه القلب.
المطلب الثَّاني: توهُّم التَّعارض مع نواميس الكون.
للكون قوانين ثابتة لا تتخلَّف، وتسير بنظامٍ دقيقٍ أودعه الله تعالى فيها، ولو سارت على غير هذا الِّنظام لاختلَّ الكون، وحصلت الكوارث والمصائب، وقد أشارت الآيات لبعض هذه السُّنن وبخاصَّةٍ فيما يتعلَّق بالّليل والنَّهار والشَّمس والقمر فقد قال تعالى: {هُوَ الّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً، وَالقَمَرَ نُورَاً، وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ} (4).وقال: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أنْ تُدْرِكَ القَمَرَ وَلا الَّليْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُون} (5).إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تدلُّ على انتظام كلِّ الأجرام ومنها الشَّمس والقمر وحمايتهما من الاصطدام والاضطراب.
وهناك بعض الأحاديث تُوهِم بخرق هذه القوانين، وتخلُّف هذا النِّظام لسببِ أو لآخر، مما يقود البعض لادِّعاء التَّناقض مع قوانين الكون ونواميسه.
ومن أمثلة ذلك ما ادَّعاه بعض المُعتزلة على الأحاديث وكذَّبوا بها الصَّحابة والرُّواة من بعدهم، حيث ذكر الرَّازي (6) عن النَّظَّام أنَّه قال: " زعم - ابن مسعود - أنَّه رأى القمر انشقَّ (1)، وهذا كذبٌ ظاهرٌ، لأنَّ الله - تعالى - ما شقَّ القمر له وحده، وإنَّما يشقُّه آيةً للعالمين، فكيف لم يعرف ذلك غيره، ولم يُؤرِّخ النَّاس به، ولم يذكره شاعرٌ ولم يُسلم عنده كافر، ولم يحتجَّ به مُسلمٌ على مُلحدٍ؟!.
فهذا الاحتجاج وإن كان عقلياً محضاً إلاّ أنَّ له تعلُّقاتٍ بما قدَّمت له، ويُستنبط هذا من خلال معرفة دوران الشَّمس والقمر وسيرهما كلٍّ في فلكٍ معيَّن، وإنَّ انشقاق القمرقد يتبعه اختلال هذا النِّظام واضطرابه. ولمناقشة هذا الاعتراض لابدَّ من توضيح ما يلي:
أوّلاً: إنَّ الشَّمس والقمر آيتان من آيات الله، ولا يستبعد عقلاً أن يُغيِّر الله في ذلك النِّظام، أو أن يتصرَّف الله فيه كما يشاء،وبخاصَّةٍ إذا كان الأمر يتعلَّق بمعجزةٍ،والمعجزة (2): أمرٌ ممكن عقلاً، خارقٌ للعادة يجريه الله على يد من أراد أن يؤيِّده، لِثبِت بذلك صدق نبوَّته، وصحة رسالته.
ولهذا فلا غرابة أن يخرق الله لنبيِّهِ هذا النِّظام سيَّما وقد تعلَّق ذلك بطلبٍ أو تحدٍّ، كما يظهر في سياق حديث أنس بن مالك عند البُخاريُّ (3) وغيره: أنَّه قال - أي أنس: إنَّ أهل مكَّة سألوا رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتَّى رأوا حراء بينهما ".
¥