فإن قيل: ومن أين لكم أنَّ القمر قد انشقَّ له كما ادّعيتم؟ أتعلمون ذلك ضرورة أم بدلالة؟ أو ليس النَّظَّام قد شكَّ في هذا وقال: لو كان قد انشقَّ لعلم بذلك أهل الغرب والشَّرق لمشاهدتهم له؟ وهذا الشَّيء سيكون عند قيام السَّاعة ومن أشراط القيامه، فبأيِّ شيء تردُّون قوله، وتبيِّنون غلطه إن كان قد غلط؟ قيل له: ما نعلم ذلك ضرورة، ولكن نعلمه بدلالة، فمن استدل عرف ومن لم يستدلَّ لم يعرف، ومن قصرعن الاستدلال والنَّظر غلط كما غلط إبراهيم النَّظَّام.
فوجه الدَّلاله على ذلك أنَّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - قد احتجَّ بذلك على المسلمين والمشركين وتلا هذا القول عليهم من سورة القمر {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}.ولم يكن ليقدم ويحتجَّ على العدو والولي بما لا حاجة فيه، ويشير إلى أمرٍ ظاهرٍ يشار إليه ويشاهده النَّاس، فلو أراد أان يكذِّب ويرد قوله ما زاد على هذا، هذا لا يقع من عاقلٍ، ولا يختاره محصِّلٌ كائنٌ من كان، فكيف يقع ممن يدَّعي النُّبوَّة والصِّدق، وهو أشدُّ حرصاً بالنَّاس كلِّهم على تصديقه واتِّباعه؟ فلو أراد أن يُكذِّبوه ويردُّوا قوله ما زاد على هذا، وهذا لا يذهب على مُتأمِّلٌ.
فإن قيل: فما تنكرون، على من قال إنَّه - صلّى الله عليه وسلّم - ما احتجَّ بهذا على نبوَّتِهِ؟ قيل له: لا فرق بين من ادَّعى ذلك أو ادَّعى في جميع ما أتى به من القرآن وغيره، أنهَّ ما احتجَّ بشيءٍ من ذلك على صدقه ونبوَّته.
ومما يزيدك علماً بذلك، ويُبيِّن غلط النَّظَّام، وجهل كلِّ من ذبَّ عن ذلك قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ القَمَر ? وَإنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌ} فانظركيف قال: اقتربت السَّاعة، وأخبر عن أمرٍ قد كان ومضى، ثمَّ قال على نسقِ الكلام: {وَانْشَقَّ القَمَرُ} فجاء بأمرٍ قد كان وانقضى ومضى، فنسق على الماضي بالماضي، ولو كان على ما ظنَّ النَّظَّام لقال: اقتربت السَّاعة وانشقاق القمر، أو كان يقول: وسينشقُّ القمر، فلمَّا لم يقل ذلك وقال وانشقَّ القمر علمت أنَّه أخبر عن شيئين واقعين قد وقعا، وكانا وحصلا.
ثم قال على نسق الكلام: {وَإنْ يروا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِر} (1) فأخبر أنَّها آيةٌ مرئيَّةٌ، وحجَّةٌ ثابتةٌ ثمَّ قال على نسق الكلام: {وَلقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأنْبَاءِ مَا فِيْهِ مُزْدَجَر? حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِي النُّذُر} (2) وهذا لا يقال فيما لم يقع ولم يكن فتأمَّل هذا التَّقريع وهذا التَّعنيف لتعلم أنَّه أمرٌ قد كان ولا يسوغ أن يقال في أمرٍ لم يكن ولم يقع هذا القول.
وأيضاً فإنَّ ما يقع في القيامة وعند السَّاعة لا يكون حجَّةً على المكلَّفين ولا يعنَّفون في ترك النَّظر والتَّأمُّل له، فإنَّ التَّكليف حينئذٍ زائلٌ مرتفعٌ.
فأمَّا قول النَّظَّام: فلِمَ لا يشاهد هذه الآية كلُّ النَّاس فليس هذا بلازمٍ لأنَّ النَّاس لم يكونوا من هذا على ميعادٍ، وإنَّما هو شيءٌ حدث ليلاً، وما كان عندهم خبرٌ بأنَّه سيحدث، وسيكون في وقت كذا فينظرونه، وإذا كان كذلك فقد بطل ما ظنَّه، يزيدك بياناً أنَّ القمر قد ينكشف كلُّه فلا يرى ذلك من النَّاس إلا الواحد بعد الواحد والنَّفر اليسير لقومهم، فكيف بانشقاق القمر الذي انشقَّ ثمَّ التأم من ساعته بعد أن رآه أُولئك القوم الذين طلبوه.
وأيضاً فقد يجوز أن يحجبه الله -عزّوجلَّ- لمصالح العباد إلاّ عن أُولئك القوم، لأنَّه قد يجوز أن يكون في بعض البلاد من المكذِّبين والمُحتالين في تلك السَّاعه من لو رأى ذلك لقال: إنَّما انشقَّ شهادة لي على صدقي ولا يكون ما ذكره النَّظَّام قد جاء من هذا الوجه أيضاً، وبطل ما توهَّمه.
ومدار الأمر أن يكون هذا أمراً قد كان، وقد ذكرنا الدَّلاله على كونه بلا عذر لمن شكَّ فيه.
ومن الدَّلاله أيضاً أنَّ ذلك قد كان: أنَّ الصَّحابة بعد رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - قد تذاكروا فما فيهم من شكَّ ولا ارتاب ولا توقَّف بل وقع إجماعٌ منهم على كونه ووقوعه، فلا معتبر بمن جاء بعدهم ممن خالفهم.
¥