تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فالأمر إذاً معروفٌ عند أهل الُّلغه بل عند متقدِّميهم ممَّن يُعدُّون في زمن الاحتجاج وكلامهم يعدُّحجَّة كالخليل، ولم ينقل لنا في أيِّ معجمٍ لُغويٍّ ما يخالف ذلك أو يضاده فمن أراد التَّفصيل ذكر ما ذكره الخليل، ومن أراد الإجمال مشى ولم يذكر شيئاً ومن ذكر الزِّيادة أو فصَّل في بحث الموضوع قُدِّم كلامه على من اختصر أو أجمل الكلام.

ثمَّ إنَّ هذا القول غير مجهولٍ عند العرب القدماء، بل عرب الجاهليَّة منهم، فقد جاء في " صحيح البُخاريِّ (1) " من حديث سُراقَة بن مالك في هجرة النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - فسَاخَتْ يدا فرسي في الأرض حتّى بلغتا الرُّكبتين (2). فهذا النَّصُّ يدل على أنَّ العرب كانت تقول هذا القول وتعرفه، وليس كما قال ابن القيِّم من أنَّه كلامٌ لا يُعقل، ولا يعرفه أهل الُّلغه وبهذا يزول الإشكال، وينتفي تعارض الحديث مع المشاهده.

وبالرُّغم من كلِّ هذه الأدلة والنُّقول من اللغة والحديث إلا أنَّ بعضاً من الكاتبين المعاصرين يعاندون اللغة والمنطق ويصادرون أفهام غيرهم ويُسفِّهون حججهم انتصاراً لمذهبياتهم وآرائهم.

فيقول أحدهم (3): " وجميع العقلاء يعرفون أنَّ البعير إذا أراد أن يبرك يثني يديه فينزل على الأرض بهما، وتبقى رجلاه قائمتان ثمَّ ينزلهما "، ولهذا فقد حكم على قوله " وليضع يديه قبل ركبتيه " بأنَّها زيادةٌ ضعيفةٌ، بل باطلةٌ!!!.

وقال آخر عن هذا الحديث (1): إذ المتأمِّل لابدَّ أن يخلص إلى أنَّ صدر الكلام لا يتفق مع عجزه، إذ المعلوم أنَّ البعير إذا برك قدَّم يديه ثمَّ رجليه، فالأمر بمخالفته يقضي بتقديم الرِّجلين ثمَّ اليدين لا العكس كما هو ظاهر الرِّواية، وعليه فإنَّ استعمال العقل والنَّظر مع كثيرٍ من الإنصاف يفضي إلى إلزام الرَّاوي الوهم، ويقضي بانقلاب بعض الكلام عليه.

ثمَّ استرسل في الكلام فرفض قول من ذهب إلى ذلك كالطَّحاويِّ والسَّرقُسْطِيِّ، وقدَّم فهمه على أفهام جميع العلماء من أهل الُّلغة، والغريب والحديث!!.

ثالثها: ما يعارض هذا الحديث من الأحاديث الأُخرى وعلى رأسها حديث وائل بن حُجْرٍ أنَّه قال:" رأيت رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم - إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه" (2).

وقد تكلم العلماء عن هذا الحديث وعلله ودرجته وقد حرَّر الشَّوْكانيُّ (3) مكان الخلاف فيه وتكلَّم عليه فهو على أيِّ حالٍ ليس بأصلحَ من حديث أبي هُريره، بل إنَّ من العلماء من قدَّم حديث أبي هُريرة عليه حيث قال ابن حجرٍ (4): وهو أقوى من حديث وائل بن حُجْرٍ، ثمَّ ذكر حديث وائل هذا وقال (5) بعد ذلك: فإنَّ للأوّل شاهداً من حديث ابن عمر - رضي الله تعالى عنه - صححه ابن خُزَيمة، وذكره البُخاريُّ مُعلَّقاً موقوفاً.

ورجح الحافظ عبد الحق الإشبيلي حديث أبي هُريره على حديث وائل (6) فقال: وهذا أحسن إسناداً من الّذي قبله.

ورأى ابن العربي (1) أنَّ الحديثين ضعيفان، إلاّ أنَّ الهيئة الأُخرى أي النُّزول على اليدين منقولة في صلاة أهل المدينه فترجَّحت بذلك على غيرها، ونقل عن علماء المذهب أنَّ ذلك أقعد بالتَّواضع وأرشد إلى الخشية (2).

وما ذكره ابن العربي من أنَّ النُّزول على اليدين من عمل أهل المدينه يؤيِّده ما رواه ابن المُنذر (3) أنَّ مالكاً قال: قال الأوزاعيُّ: أدكت النَّاس يضعون أيديهم قبل ركبهم (4).

فعلى هذا يكون حديث أبي هُريرة أرجح من حيث الإسناد، ولا يوجد ما لا يُعقل فيه، أو ما لا يُعرف عند العرب، فالمصير إليه أولى من المصير إلى حديث وائل، وهذا لايعني بحالٍ طرح مسألة جواز الصلاة بهذه وعدم جواز الصلاة بتلك، لأنَّ هذا ليس مثار البحث، ولم يقل به أحدٌ، ولهذا قال شيخ الإسلام (5) - رحمه الله -:" إنَّ الصَّلاه بكليهما جائزةٌ باتِّفاق العلماء، إن شاء المصلي يضع ركبتيه قبل يديه، وإن شاء وضع يديه قبل ركبتيه، وصلاته صحيحة في الحالتين باتِّفاق العلماء، ولكن تنازعوا في الأفضل ".

وهذا ما تطئن إليه النَّفس مع اعتقاد أنَّ الأفضليَّة لتقديم اليدين لما تقدَّم.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير