تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ومن الأمثله على تعارض الحديث مع المشاهده أيضاً ما رواه مُسلمً في "صحيحه " (6) عن عِياض بن حمار المُجاشِعيِّ أنَّ رسول الله-صلّى الله عليه وسلّم- قال ذات يومٍ في خطبته: "ألا إنَّ رَبِي أمَرَنِي أنْ أُعَلِمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ، مِمَّا عَلَّمَنِي يَومِي هَذَا:كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدَا حَلالٌ، وَإنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإنَّهُمْ أتَتْهُمُ الشَّيَاطِيْنُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهم ... " إلى أن قال:" وَأنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابَاً لا يَغْسِلُهُ المَاءُ، تَقْرَؤهُ نَائِماً وَيَقْظَان ". الحديث.

الشاهد من هذا الحديث الطَّويل - الذي اقتصرت على هذا الجزء منه - قوله:" وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء"،والظَّاهر من هذه الَّلفظة أنَّه لو كتب ثمَّ غُسل بالماء كما تغسل الكتب جميعاً - أيام كانت تكتب بالحبر- فإنَّه لن يُغسل، ولن تذهب الكتابه، وهذا خلاف المشاهده إذ لو غُسل فلسوف ينطبق عليه ما ينطبق على سواه، فما المراد بذلك؟

ذكر النَّوَويُّ وجهاً وحيداً في تفسير الحديث وجزم به، فقال (1):" أمَّا قوله تعالى: لا يغسله الماء فمعناه محفوظٌ في الصُّدور لا يتطرَّق إليه الذَّهاب، بل يبقى على مرِّ الأزمان ". وكأنه يشير إلى أنّ الفرق بينه وبين بقية الكتب أنَّ هذا الكتاب لو غُسل بالماء وذهب محتواه ظاهريَّاً إلا أنَّه محفوظٌ في الصُّدور لا يؤثِّر عليه هذا الغسل، بخلاف أيِّ كتاب لو غُسل بالماء ذهب العلم الّذي فيه وضاع.

وهذا وجهٌ جيِّدٌ كان الممكن أن اقتصر عليه لولا روايات أُخرى بمعنى هذا الحديث جاء فيها (2): "لو أنَّ القُرْآنَ جُعِلَ فِي إهَابٍ ثمَّ أُلقِيَ فِي النَّارِ مَا احْتَرَقَ ".

وهذا الحديث ابتداءً يخالف الحسَّ والمُشاهدة ولا يتوجَّه القول بظاهره بحالٍ، ولهذا فقد روى ابن شاهين في " الترغيب والترهيب " (3) له عن أبي عُبيد القاسم بن سلاّم أنَّه قال: "وجه هذا عندنا أنَّ يكون أراد بالإهاب قلب المؤمن وجوفه الّذي قد وعى القرآن ". وهذا التَّوجيه من أبي عُبيدٍ مُشكلٌ أيضاً إذ يقتضي أن لا يدخل النَّار من جمع القرآن وحفظه. والمُعوَّل على عدم دخول النَّار العمل بالقرآن واتِّباعه لا مجرَّد حفظه. إذ قد يحفظه الكافر إن قصد. ولذلك فإنِّي أطمئنُّ لتفسير أبي عبد الرَّحمن، وأظنُّه عبد الله بن يزيد المُقرىء - الرَّاوي عن ابن لَهِيعة عند أبي يَعْلى إذ قال (4): " إنَّ من جمع القرآن ثمَّ دخل النَّار فهو شرٌّ من الخِنْزير".

قال المَازِريُّ (1): فيحتمل أن يُشير إلى أنَّه أودعه قلبه وسهَّل عليه حفظه، وما في القلوب لا يُخشى عليه الذَّهاب بالغسل، ويُحتمل أن يُريد الإشارة إلى حفظه وبقائه على مرِّ الدَّهر فكنَّى عن هذا، بهذا الَّلفظ.

المطلب الثَّاني: تعارض الحديث مع الواقع.

والمراد من ذلك بحث تعارض الأحاديث مع أُمورٍ واقعيَّةٍ، بناءً على ما استقرت عليه الأُمور، فالتَّعارض لم يكن ابتداءً، وإنَّما حصل بعد أن استقرَّ الواقع أو أنَّ واقع قول الحديث كان يتعارض وصيغة الحديث.

ومن أمثلة ما تعارض الحديث فيه مع الواقع ما رواه البُخاريُّ (2) عن أبي هُريره عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - قال: " لَو آمَنَ بِي عَشْرَةٌ مِنَ اليَهُودِ لآمَنَ بِي اليَهُودُ " والحال أنَّ الّذين آمنوا من اليهود أكثر من عشرةٍ، بل هم عشراتٌ عند التَّحقيق، ولقد استشكل هذا الحديث شُرَّاح الصَّحيح وغيرهم فقال الكِرْماني (3): " فإن قلت ما وجه صحَّة هذه المُلازمة وقد آمن من اليهود عشرةٌ وأكثر منها أضعافاً مضاعفةً، ولم يؤمن الجميع"؟ " قلت: لو للمضي معناه لو آمن في الزَّمان الماضي كقبل قدوم النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - المدينة، أو عقب قدومه مثلاً عشرةٌ لتابعهم الكلُّ، لكن لم يؤمنوا حينئذٍ فلم يُتابعهم الكلُّ ".

وهذا الجواب عندي في غاية البُعد، وسأتعرَّض لأمثاله في الباب الرَّابع الّذي خصَّصته للنَّقد والمناقشات، عندما سأتكلَّم عن التَّأويل البعيد.

وقال ابن حجرٍ (4) بعد حكايته قول الكِرماني دون أن يسميه: " والّذي يظهر أنَّهم الَّذين كانوا حينئذٍ رؤساء في اليهود، ومن عداهم كان تبعاً لهم، فلم يُسلم منهم إلاّ القليل ".

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير