تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وهذا الصَّنيع من الكِرماني، وابن حجر وغيرهما من العلماء الّذين التمسوا للحديث المحامل المختلفه إقرارٌ منهم بأنَّ ظاهر الحديث يتعارض مع الواقع الّذي يقضي بأنَّ الّذين أسلموا من اليهود أكثر من عشرةٍ.

ولقد أحصيت تراجم من أسلم من اليهود أثناء قراءتي في"الإصابة في تمييز الصَّحابة " فتحصَّل عندي (48) (1) يهوديَّاً أسلموا، وصف ابن حجرٍ ثمانيةً منهم بالحبر، ولعل العدد أكثر من هذا، إذ إنَّ في الصَّحابة عدداً ممن أسلم من اليهود ولم يُذكروا أو يُترجموا لأنَّ الصَّحابة المُترجمين في أوسع ديوانٍ لتراجمهم (2) لم يبلغوا عشرة ألآفٍ، هذا مع احتساب أصحاب الطَّبقتين الثَّالثة والرَّابعة - أي المشكوك في كونهم صحابة، أو من ادَّعوا الصُّحبة، أو قيل عنهم صحابةً خطأً-، وهو يبلغ عُشر عدد الصَّحابة الّذين مات عنهم رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - إذ روى الخطيب (3) عن أبي زُرعة قوله: إنَّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: " قُبض عن مئة ألفٍ وأربعة عشر ألفاً من الصَّحابة ممَّن رُوي عنه وسُمِع منه. وروى الخطيب (4) عن أبي زُرعة كذلك عندما سُئل عن عدَّة من روى عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - فقال: " ومن يضبط هذا؟ شهد مع النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - حجَّة الوداع أربعون ألفاً وشهد معه تبوك سبعون ألفاً ".

فهذه الأعداد الكبيرة من الصَّحابة لم نجد تراجمهم، ولا أشار إليهم أحدٌ، ولا بدَّ أن يكون بينهم عددٌ من اليهود الّذين أسلموا، وهذا بالإضافة إلى من مات في عهد النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - أثناء الغزوات وغيرها.

فالتَّعارض مع الواقع وظاهر الحديث بناء على ما مرَّ واقعٌ وحاصلٌ، وحمل المراد على الأحبار فحسب كما فهم البعض تخصيصٌ دون دليلٍ. أمَّا حملة العشرة على أنَّهم الرُّؤساء فهو أمرٌ يكاد يكون مقبولاً وبخاصَّةٍ إذا جمع هؤلاء الرُّؤساء بين صفتهم هذه وصفتهم كأحبار.

وقد ذكر ابن حجرٍ (5) ان أبا سعيدٍ (6) أخرج هذا الحديث في " شرف المصطفى " وزاد في آخره قال: " قال كعبٌ: " هم الّذين سمّاهم الله في سورة المائده ".

قلت: ولعلَّه يشير إلى قوله تعالى (1): {وَلَقَدْ أَخَذْنَا مِيْثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيْلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُم اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيْبَاً وَقَالَ اللهُ إنِّي مَعَكُمْ ........ } فإن أراد من قوله الّذين سمَّاهم الله ممَّن كان على عهد النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلّم - فهو مُشكلٌ في غاية الإشكال، لأنَّ المُفسِّرين وممَّن ألَّف في التَّواريخ والمُبهمات (2) سمَّوا هؤلاء وكلُّهم من أسياط يهودٍ ورؤسائهم في عهد موسى - عليه السَّلام -. ولذلك فإنِّي أُرجِّح أن يكون مُراد كعبٍ من قوله هذا إشارته إلى الصِّفة أي المُراد من النُّقباء والرُّؤساء وعلى هذا يأتلف هذا القول مع قول من جمع بين المُتعارضين بمثل هذا الجمع.

ومن الأمثلة على هذا الَّنوع من التَّعارض ما رواه الطَّبراني في "المعجم الكبير" (3) عن رجلٍ من سُليمٍ مرفوعاً: " إيَّاكُمْ وَأبْوَابَ السُّلْطَانِ، فَإنَّهُ قَدْ أصْبَحَ صَعْبَاً هَبُوطَاً ".

فصيغة الحديث: " قد أصبح صعباً هبوطاً " تُشعر بأنَّ القائل يحكي عن حالٍ معيشةٍ وواقعٍ موجودٍ، ممَّا يتعارض مع الوقت الّذي قيل فيه الحديث إذ إنَّ السُّلطان والحاكم آنذاك كان النَّبيّ - صلّى الله عليه وسلّم - فكيف يُحذِّر من شيئٍ هو القائم به، وأمره بيده ?.

وقد يقول قائلٌ: لعلَّه أراد - صلّى الله عليه وسلّم - المستقبل من الزَّمن وهو ما تحقَّق بعد ذلك.

فالجواب: إنَّ هذا قد يكون ممكناً لو لم تكن الصِّيغة " قد أصبح " الّتي تفيد التَّحقيق، لا التَّوقع والاستقبال، كما لو كانت " قد يُصبح "، ولهذا فحَمْلُ الحديث على المستقبل أمرٌ مستبعدٌ لما تقتضيه الُّلغة، وهو مستبعدٌ كذلك لأنَّه من يُنافي الفصاحة والبلاغة النَّبويَّة الّتي خُصَّ بها -صلّى الله عليه وسلّم - والّتي يستطيع من خلالها أن يُبلِّغ المقصود بأسهل الكلمات، وأوجز العبارات، دون لبسٍ أو تداخُلٍ. فما المخرج إذاً من هذا التَّعارض الواضح الّذي اشتمل عليه الحديث؟.

ابتداءً يجب أنَّ ننظر في الحديث من حيث صحَّته وعدمها، ونحدِّد درجته بناءً على ذلك، ثمَّ ننظر فيما وراء ذلك من خطوات.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير