ومن أمثلة هذا ما رواه مالك في الموطأ (3) عن ابن عمر أنَّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - قال: " المُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالخَيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا،إلاّ بَيْعَ الخَيَارِ ".
قال مالك: وليس لهذا عندنا حدٌّ معروفٌ، ولا أمرٌ معمولٌ به فيه (4).
وهذه المقولة من الإمام مالك ولَّدت جدلاً كبيراً، وكلاماً كثيرا بين أصحابه وأتباعه، حول مراده منها، وهل هذا ردٌّ منه للحديث أم لا؟ وأجابوا بأجوبةٍ كثيرةٍ لا يخلو أغلبها من تعسُّفٍ وتكلُّفٍ.
(1) ترتيب المدارك: 66.
(2) المصدر السابق: 69 - 70.
(3) 2/ 550 كتاب البيوع / باب بيع الخيار، وأخرجه كذلك البُخاريُّ،البيوع /45باب البيعان بالخيار ما لم يتفرقا: 3/ 18، ومُسلمٌ،البيوع /ثبوت خيار المجلس: 3/ 1163 - 1164 رقم (1531) وأبو داود،بيوع /في خيار المتبايعين: 3/ 272 - 273 رقم (3454، 3456)، والنَّسائيُّ بيوع: 7/ 248، والتِّرمِذيُّ،بيوع /26 ما جاء في البيعين بالخيار: 3/ 547 رقم (1245) والشَّافعيُّ في " الرساله ": 313 رقم (863)، وعبد الرَّزاق في " المصنف ": 8/ 50 رقم (14261) والحُمَيديُّ في " المسند ": 2/ 290 رقم (654)، وأحمد في " المسند ": 2/ 4، 56، 73، والطَّحاويُّ في " شرح معاني الآثار ": 4/ 12، وابن حِبَّان في " الصحيح " كما في " الإحسان ": 11/ 283 - 284 رقم (4916)، والبَيهَقيُّ في " السنن الكبرى ": 5/ 268.
(4) لم يذكر أبومصعب هذه الَّلفظة في روايته للموطأ: 2/ 379 - 380.
وقبل استعراض بعض أجوبتهم على الحديث، يجب معرفة موقع هذا الحديث من حيث القبول والرَّدِّ، لنرى هل يقوى على مواجهة تلك الأجوبه أم لا؟.
قال ابن عبد البَرِّ (1): " وأجمع العلماء على أنَّ هذا الحديث ثابتٌ عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - وأنَّه من أثبت ما نقل الآحاد العدول، واختلفوا في القول به والعمل بما دلَّ عليه: فطائفةٌ استعملته وجعلته أصلاً من أُصول الدِّين في البُيوع، وطائفةٌ ردَّته، فاختلف الَّذين ردُّوه في تأويل ما ردُّوه به، وفي الوجوه الّتي بها دفعوا العمل به ".
فأمَّا الّذين ردُّوه: فمالكٌ، وأبو حَنيفة، وأصحابهما، ولا أعلم أحداً ردَّه غير هؤلاء، إلاّ شيءٌ روي عن إبراهيم النَّخْعيِّ ".
وكما قدَّمت فإنَّ الوجوه الّتي ردَّ بها أصحاب مالكٍ على هذا الحديث متعدِّدةٌ؛ منها أنَّه منسوخٌ (2)، وقد ردَّ ابن حجرٍ هذا على قائليه بقوله (3):" ولا حجَّة في شيءٍ من ذلك لأنَّ النَّسخَ لا يثبت بالاحتمال ".
ولعل أقوى ما تمسَّك به هؤلاء هو قولهم إنَّ هذا الحديث مخالفٌ لعمل أهل المدينة وإجماعهم حجَّة فيما أجمعوا عليه، وهذا مرادي من سياق المثال.
ولم يرتضِ المحقِّقُون من المالكيَّة هذا القول والإطلاق، فقال ابن عبد البرِّ (4): " وقال بعضهم لا يصحُّ دعوى إجماع أهل المدينة في هذه المسألة، لأنَّ سعيد بن المسيب، وابن شهابٍ --وهما أجلُّ فقهاء أهل المدينة -روي عنهما منصوصاً العمل به، ولم يُرو عن أحدٍ من أهل المدينة - نصاً - ترك العمل به، إلاّ عن مالكٍ وربيعةَ، وقد اختلف فيه عن ربيعة، وقد كان ابن أبي ذئب ٍ (1) - وهو من فقهاء أهل المدينة في عصر مالكٍ - ينكر على مالك اختياره ترك العمل به حتَّى جرى منه لذلك في مالكٍ قولٌ خشنٌ، حمله عليه الغضب، ولم يُستحسن مثله منه، فكيف يصحُّ لأحدٍ أن يدَّعي إجماع أهل المدينة في هذه المسألة؟ هذا ما لا يصحُّ القول به ".
(1) التمهيد: 14/ 8 تحقيق سعيد أحمد أعراب، 1404 هـ - 1984 م.
(2) انظر: القاضي عياض -ترتيب المدارك: 1/ 72، والمازري - المعلم: 1/ 507.
(3) فتح الباري: 4/ 330.
(4) التمهيد: 14/ 9 - 10.
(1) روى ابن حزمٍ في " المحلى": 8/ 354 - 355 عن ابن أبي ذئبٍ أنَّه قال: هذا حديث موطوء بالمدينه - أي مشهور -.
وقال المَازريُّ (2): " وأمَّا قول بعض أصحابنا: أنَّه مخالفٌ للعمل فلا يُعوَّل عليه أيضاً، لأنَّ العمل إذا لم يرد به عمل الأُمَّة بأسرها، أو عمل من يجب الرُّجوع إلى عمله فلا حجَّة فيه ".
¥