يَكُونَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ ".
فالحديث كما هو واضحٌ تضمَّن ما يوهم بسقوط التَّكليف، وهو غير مراد.
() سورة الحجر: 99.
() انظر: ابن قدامة - روضة الناظر: 183، وعبد العلي الأنصاري - فواتح الرّحموت: 1/ 281.
() الصحيح، الجهاد /141 الجاسوس: 4/ 18، 38 - 39،والمغازي/ 46غزوة الفتح: 5/ 89، 6/ 60 وغير ذلك.
() الصحيح،فضائل الصحابة /فضائل أهل بدر:4/ 1941 رقم (2494). كما أخرجه أبو داود، الجهاد/ في حكم الجاسوس: 3/ 47، 48 رقم (2650) والتِّرمِذيُّ،تفسير القرآن/91: 5/ 409 - 410 رقم (3305)، والحُميديُّ في " المسند ": 1/ 27 - 28 رقم (49)، وأحمد في " المسند ": 1/ 79، والنَّسائي في " التفسير ": 2/ 414 - 415 رقم (605) والطَّبريُّ في " جامع البيان ": 28/ 58، وأبو يَعْلى في " المسند ": 1/ 218 - 222 رقم (390 - 394) وابن حِبَّان في " صحيحه " كما في " الإحسان ": 14/ 424 - 425 رقم (6499)، والبَيْهقيُّ في "السنن الكبرى":9/ 146، ودلائل النبوة ":5/ 17، والوَاحِديُّ في " أسباب النزول ": 302.
قال ابن القيِّم (): أشكل على كثير من النَّاس معناه، فإنَّ ظاهره إباحة كلِّ الأعمال لهم وتخييرهم فيما شاؤوا منها، وذلك ممتنعٌ، فقالت طائفةٌ منهم ابن الجَوزِي: ليس المراد من قوله "اعملوا" الاستقبال وإنَّما هو للماضي ()، وتقديره: أيُّ عمل كان لكم فقد غفرته، قال: ويدلُّ على ذلك شيئان:
أحدهما: إنَّه لو كان للمستقبل كان جوابه فسأغفر لكم.
والثَّاني: إنَّه كان يكون إطلاقاً في الذُّنوب.
ولا وجه لذلك، وحقيقة هذا الجواب، أي قد غفرت لكم بهذه الغزوة ما سلف من ذنوبكم، لكنَّه ضعيفٌ من وجهين:
أحدهما: إنَّ لفظ " اعملوا " يأباه، فإنَّه للاستقبال دون الماضي، وقوله: " قد غفرت لكم " لا يوجب أن يكون اعملوا مثله، فإنَّ قوله قد غفرت تحقيقٌ لوقوع المغفرة في المستقبل كقوله: {أتَى أمْرُ اللهِ} و {جَاءَ رَبُّكَ} ونظائره.
الثَّاني: إنَّ نفس الحديث يردُّه فإنَّ سببه قصة حاطب وتجسُّسه على النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - وذلك ذنبٌ واقعٌ بعد غزوة بدرٍ، لا قبلها، وهو سبب الحديث، فهو مراد منه قطعاً.
فالّذي نظنُّ في ذلك - والله أعلم - أنَّ هذا خطابٌ لقومٍ قد علم الله - سبحانه -أنَّهم لا يفارقون دينهم، بل يموتون على الإسلام، وأنَّهم قد يقارفون بعض ما يقارفه غيرهم من الذُّنوب ولكن لا يتركهم - سبحانه - مُصرِّين عليها، بل يُوفِّقهم لتوبةٍ نَصُوحٍ، واستغفارٍ وحسناتٍ تمحو أثر ذلك، ويكون تخصيصهم بها دون غيرهم لأنَّه قد تحقَّق ذلك فيهم، وأنَّهم مغفورٌ لهم، ولا يمنع ذلك كون المغفره حصلت بأسبابٍ تقوم بهم، كما لا يقتضي ذلك أن يُعطِّلُوا الفرائض وُثُوقاً بالمغفرة، ولو كانت قد حصلت بدون الاستمرار على القيام بالأوامر لما احتاجوا بعد ذلك إلى صلاةٍ، ولا صيامٍ، ولا حجٍّ ولا زكاةٍ، ولا جهادٍ، وهذا مُحالٌ ".
() الفوائد: 25، تحقيق: أحمد راتب عرموش، دار الثقافة- بيروت-، ط الخامسة 1404 هـ / 1984 م.
() ويردُّ هذا رواية الطَّبري في " جامع البيان ": 28/ " إني غافرٌ لكم "، وما نقله ابن حجرٍ في " فتح الباري ": 8/ 635 عن " مغازي ابن عائذ " من مرسل عروة: " اعملوا ما شئتم فسأغفر لكم.
ونظائر هذا في الكتاب والسُّنَّة موفورةٌ، تشهد بأنَّ المراد عدم رفع التَّكليف عنهم، وإلاّ لفهمنا من قول الله عزّوجلَّ: {لِيَغْفِرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأخَّرَ} () ارتفاع التَّكليف عنه - صلّى الله عليه وسلّم - وهذا ما لم يقل به أحدٌ، بل إنَّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلّم - كان أشدَّ اجتهاداً في عبادته بعد نزول هذه الآية عليه.
ثمَّ إنَّ النَّبيَّ -صلّى الله عليه وسلّم -قد أخبر عن بعض الصَّحابة، بما يُوهم ذلك، ولم يظهر منهم اتِّكالاً على ما قاله، أو تركاً للعمل، فقد بشَّر عدداً من الصَّحابة بالجنَّة، وهؤلاء المُبشَّرون كانوا أشدَّ النَّاس اجتهاداً وتشميراً في شأن الآخرة مما يُسقط الاستشهاد بفهم من فهم من هذا الحديث انقطاع التَّكليف عن البعض.
¥