وما قيل في هذا الحديث يقال عن الحديث الذي رواه سهل بن الحَنْظليَّة أنَّ النَّبيَّ -صلّى الله عليه وسلّم - قال لأنس بن أبي مرثدٍ الغَنَوي:" قَدْ أوْجَبْتَ فَلا عَلَيْكَ ألاّ تَعْمَلَ بَعْدَهَا " ().
الفصل الثالث
تعارض الحديث مع العقل والواقع ونواميس الكون
وفيه ثلاثة مباحث
المبحث الاول: تعارض الحديث مع العقل ومُسلَّمات العلوم.
المبحث الثاني: تعارض الحديث مع الوقائع ونواميس الكون.
المبحث الثالث: تعارض الحديث مع الواقع والحِسِّ والمشاهده
() سورة الفتح:2
() أخرجه أبو داود في السنن،الجهاد /فضل الحرس في سبيل الله: 3/ 9 - 10 رقم (2501)، والطَّبرانيُّ في " المعجم الكبير ": 6/ 96، وفي مسند الشاميين رقم (6864) كما قال محقق الطَّبراني. وقال ابن حجرٍ في " فتح الباري ": 8/ 27 إسناده حسن ٌ.
المبحث الاول
تعارض الحديث مع العقل ومُسلَّمات العلوم
قد يقف البعض على عددٍ من النُّصوص يُفهم منها تعارضاً وتناقضاً ما بينها وبين العقل أو البدهيات والمُسلَّمات في العقول، فيدَّعى التَّناقض على الشَّريعه لطرحها واستبعادها كما يفعل بعض الجهله عندما لا يستوعبون الاختلافات بين المذاهب الفقهيَّه او العقيديَّه فيُلحدون بحُجَّة التَّناقض والتَّعارض فيما بينهما.
ولسوف أتعرَّض في المطالب المقبلة لهذا النَّوع، وهو تعارض الحديث مع العقل بعد بحث ماهيَّة العقل الذي يجب أن يُؤخذ بتعارضِهِ، وسأُعرِّج على تعارض الحديث مع الرَّأي والقياس أيضاً لانهما ثمرة من ثمرات العقل، ثمَّ سأتعرَّض لتعارض الحديث مع مُسلَّمات العلوم، وقلت مُسلَّمات لأنَّ هناك فَرَضِيَّات في العلوم، وهذه الفَرَضيَّات لا ترتقي إلى منزلة التَّعارض مع الحديث أو الآيات لأنَّها أقلُّ منزلةٍ وأحطُّ بدرجاتٍ إلا إذا ثبت صدقها يقيناً لا ظنَّاً. وهذه المطالب المقبلة توضِّح المطلوب من هذا المبحث.
المطلب الاول:توهُّم تعارض الحديث مع العقل.
بدايةً لابدَّ من الاعتراف أنَّ تعارض الحديث مع العقل لا ضابط له، والسَّبب في ذلك هو اختلاف العقول وتباينها من شخص لأخر، ولهذا فإنَّ سؤالاً كبيراً يُطرح هاهنا وهو: ماهي مواصفات العقل الذي سيُعتمد عليه للحكم بمعارضته أو مناقضته للنُّصوص؟ سيما وأنَّ ما قد يستشكله شخصٌ، لا يكون كذلك عند آخر، وما يستغربه عقلٌ يكون عادِيَّاً ومقبولاً عند عقلٍ آخر ...... وهكذا. وبخاصَّةٍ إذا أخذنا بعين الاعتبار أنَّ العقل منه ما هو غريزيٌّ (1)، ومنه ما هو مكتسبٌ بالتَّجارب والمعارف، وهناك عقولٌ جمعت بين كونها غريزيَّة ومكتسبة، ولا يخفى ما بين هذه العقول من تفاوتٍ واختلافٍ في طريقة الفهم، وتناول المسائل، وتقديم الحلول.
(1) قال معاويه بن قُرَّه: العقل عقلان: عقل تجارُبٍ وعقل نَحِيزةٍ (أي طبيعة) فإذا اجتمعا في رجلٍ فذاك الذي يُقام له، وإذا تَفَرَّدا كانت النَّحِيزة أوْلاهما. أُنظر: ابن أبي الدنيا - العقل وفضله: 50 تحقيق لطفي محمد الصغير، دار الرايه - الرياض، ط الاولى 1409 هـ / 1989 م.
ثمَّ " إنَّ العقل يبطل الاعتماد على العقل" كما قال الدكتور يوسف القرضاوي (1)، وإذا أردنا أن نُحكِّم العقل ونجعله الضَّابط والمقياس، فعقل من نُحكِّم؟
" هل نُحكِّم عقل الحُفَّاظ، أم عقل الفُقَهاء؟
هل نُحكِّم العقل السَّلفيَّ، أم العقل الصُّوفيَّ؟
وهل نُحكِّم العقل الأُصوليَّ، أم العقل الفلسفيَّ؟ ولقد رأينا الفلاسفه وهم طائفه واحده يختلفون فيما بينهم إلى حدِّ التَّناقض والتَّضارب، فهذا يُثْبِتُ، وهذا يَنْفِي، وهذا يَبني، وهذا يَهدِم، فمن معه الحقُّ من الفلاسفة؟ عقل المِثاليِّين، أم االواقعيِّين، أم الماديِّين (2)؟ ".
فالعقل مُتعدِّدٌ متغيِّرٌ والدِّين والنُّصوص واحدةٌ ثابتةٌ، فالمنطق يقضي باعتماد الثَّابت في مواجهة المتعدِّد المتغيِّر.
والخلاصة: أنَّه يَعْسُرُ علينا أن نحكم بتعارض العقل مع الحديث، بل إنَّ التَّسليم لهذا الأمر غير سائغٍ، لأنَّ الَّذي يحكم العقل قناعات صاحبه وتكوينه، ولهذا فإنْ ورد علينا أنَّ العقل قد تعارض مع حديث، فإنَّ اقصى ما يمكن ادِّعاؤه هو أنَّ العقل فيما بدا لفلان قد تعارض مع الحديث.
¥