أمَّا التَّأويل فلا يُلجأ له إلاّ إذا لم نجد لظاهر الحديث محملاً، ولكن والحال أنَّه يمكن حمل الحديث على ظاهره فالأولى عدم الُّلجوء للتَّأويل، إذ هو نوعٌ من الانتصار لفكرةٍ على حساب أُخرى كما سيأتي في الباب القادم.
أمَّا حمله على الحقيقة فهو الأولى والأجدر، وإليه ذهب القُرطبيُّ (4) فقال: " إنَّ الله يخلق من ثواب الأعمال أشخاصاً حسنةً وقبيحةً، لا أنَّ العَرَض نفسه ينقلبُ جوهراً إذ ليس من
(1) سورة مريم: 39.
(2) - حكايه عمن ردَّ الحديث - انظر: عارضة الأحوذي:10/ 27.وانظر ابن حجر - فتح االباري:11/ 321.
(3) عارضة الاحوذي: 10/ 27.
(4) التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة:، مكتبة الإيمان - المنصورة، الناشر: المكتبة التوفيقية - القاهرة، بدون تاريخ.
قبيل الجواهر، قال: ومحالٌ أن ينقلب الموت كبشاً لأنَّ الموت عَرَض، وإنَّما المعنى أنَّ الله - سبحانه - يخلق شخصاً يُسميه الموت فيُذبح بين الجنَّه والنَّار.
وبعض الاستنتاجات عند القُرطبيِّ يُعكِّر عليها ما جاء في رواية أبي سعيدٍ الخُدْريِّ من أنَّهم يعرفون الموت، ولو أنَّه خُلق لساعته فمن أين سيكونون قد عرفوه؟؟.
وذهب ابن القَيِّم (1): إلى أن الله - سبحانه - يُنشيء من الموت صورة كبشٍ كما يُنشيء من الأعمال صوراً معيَّنةٍ يُثاب بها ويُعاقب، والله تعالى ينشيء من الأعراض أجساماً تكون الأعراض مادةً لها، ويُنشيء من الأجسام أعراضاً، كما يُنشيءُ من الأعراض أعراضاً، ومن الأجسام أجساماً، فالأقسام الأربعة ممكنة مقدورة للرَّب تعالى.
وقد استشهد ابن قيِّم الجَوْزيَّة (2) بما يُقوِّي ما ذهب إليه، ويوضِّح مراده بالأحاديث الّتي تُشابه هذا الحديث ومنها قول النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم -: " تَجِيءُ البَقَرَهُ وَآلُ عِمْرَانَ يَوْمَ القِيَامَة كأنَّهُمَاغَمَامَتَان" (3) وغير ذلك من الأحاديث الّتي تدلُّ على جواز انقلاب الأعراض إلى أجسامٍ.
وخلاصة القول: أنَّ المسألة إذا كانت تتعلَّق بقدرة الله كما هو الحال هنا فلا داعي لإنكارها، أو استشكالها، ثمَّ إنَّ هذه المسألة تتعلَّق بعالم الغيب، وقد قررت ابتداءً أنَّ عالم الغيب غير الشَّهاده،وهذا عين ما ذهب إليه العلاّمه أحمد شاكر في تعليقه علىمسند أحمد،
(1) انظر:حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح: 286، دار الكتب العلمية - بيروت، ط الأولى 1403 هـ / 1983
(2) المصدر السابق.
(3) أخرجه الإمام مسلم،صلاة المسافرين /فضل قراءة القرآن وسورة البقرة: 1/ 553 رقم (804) بلفظ: "اقْرَأوا القُرْآنَ، فَإنَّهُ يَأتِي يَومَ القِيَامَةِ شَفِيْعَاً لأصْحَابِهِ، اقْرَأوا الزَّهْرَاوَيْن: البَقَرَةَ وَسُورَةَ آل عِمْرَانَ فإنَّهُمَا تَأتِيَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ كَأنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أو غَيَايَتَانِ ..... ". من حديث أبي أُمامة، وأخرجه كذلك من حديثه: عبد الرزاق في " المصنف ": 3/ 365 - 366 رقم (991) واحمد في " المسند ": 5/ 249، 251، 254 - 255 - 257، وابن الضِّريس في "فضائل القرآن": 59رقم (98) تحقيق:غزة بدير، دار الفكر-بيروت ط الأولى 1408هـ/1988م،وابن حِبَّان في "صحيحه"كما في " الإحسان ": 1/ 322 رقم (116)، والطَّبراني في " المعجم الكبير ": 8/ 118 رقم (7542) و 8/ 291 رقم (8118)، والحاكم في " المستدرك ": 1/ 564، والبيهقي في " السنن الكبرى ": 2/ 395 والبغوي في"شرح السنة ":4/ 456 رقم (1193) والحديث مرويٌّ كذلك عن بَريده الأسلمي كما عند أحمد في " المسند ":5/ 348، 361، والدَّارمي في " السنن ": 2/ 450 - 451، والحاكم في " المستدرك ": 1/ 560.
حيث قال (4): " وعالم الغيب الّذي وراء المادَّة لا تدركه العقول المُقيَّدة بالأجسام في هذه الأرض، بل إن العقول عجزت عن إدراك حقائق المادَّة الّتي في متناول إدراكها، فما بالها تسمو إلى الحكم على ما خرج من نطاق قدرتها ومن سلطانها؟؟.
¥