فعلى هذا يكون حديث أبي هُريرة أرجح من حيث الإسناد، ولا يوجد ما لا يُعقل فيه، أو ما لا يُعرف عند العرب، فالمصير إليه أولى من المصير إلى حديث وائل، وهذا لايعني بحالٍ طرح مسألة جواز الصلاة بهذه وعدم جواز الصلاة بتلك، لأنَّ هذا ليس مثار البحث، ولم يقل به أحدٌ، ولهذا قال شيخ الإسلام (5) - رحمه الله -:" إنَّ الصَّلاه بكليهما جائزةٌ باتِّفاق العلماء، إن شاء المصلي يضع ركبتيه قبل يديه، وإن شاء وضع يديه قبل ركبتيه، وصلاته صحيحة في الحالتين باتِّفاق العلماء، ولكن تنازعوا في الأفضل ".
وهذا ما تطئن إليه النَّفس مع اعتقاد أنَّ الأفضليَّة لتقديم اليدين لما تقدَّم.
ومن الأمثله على تعارض الحديث مع المشاهده أيضاً ما رواه مُسلمً في "صحيحه " (6) عن عِياض بن حمار المُجاشِعيِّ أنَّ رسول الله-صلّى الله عليه وسلّم- قال ذات يومٍ في خطبته: "ألا إنَّ رَبِي أمَرَنِي أنْ أُعَلِمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ، مِمَّا عَلَّمَنِي يَومِي هَذَا:كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدَا حَلالٌ، وَإنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإنَّهُمْ أتَتْهُمُ الشَّيَاطِيْنُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهم ... " إلى أن قال:" وَأنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابَاً لا يَغْسِلُهُ المَاءُ، تَقْرَؤهُ نَائِماً وَيَقْظَان ". الحديث.
الشاهد من هذا الحديث الطَّويل - الذي اقتصرت على هذا الجزء منه - قوله:" وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء"،والظَّاهر من هذه الَّلفظة أنَّه لو كتب ثمَّ غُسل بالماء كما تغسل الكتب جميعاً - أيام كانت تكتب بالحبر- فإنَّه لن يُغسل، ولن تذهب الكتابه، وهذا خلاف المشاهده إذ لو غُسل فلسوف ينطبق عليه ما ينطبق على سواه، فما المراد بذلك؟
(1) انظر: عارضه الأحوذي: 2/ 68 - 69
(2) ما نقله ابن العربي هنا عن هذا الحديث، قاله ابن الجوزي في"التحقيق": 1/ 168 عن الحديث الآخر.
(3) انظر: الأوسط: 3/ 166
(4) وانظر كذلك: الحازمي - الاعتبار: 55،وابن رشد - البيان والتَّحصيل:1/ 345، تحقيق: د. محمد حجي، دار الغرب الاسلامي - بيروت، 1404 هـ - 1984 م.
(5) انظر: مجموع الفتاوى: 22/ 449.
(6) 4/ 2197 رقم (2865) وأخرجه أحمد في " المسند ".
ذكر النَّوَويُّ وجهاً وحيداً في تفسير الحديث وجزم به، فقال (1):" أمَّا قوله تعالى: لا يغسله الماء فمعناه محفوظٌ في الصُّدور لا يتطرَّق إليه الذَّهاب، بل يبقى على مرِّ الأزمان ". وكأنه يشير إلى أنّ الفرق بينه وبين بقية الكتب أنَّ هذا الكتاب لو غُسل بالماء وذهب محتواه ظاهريَّاً إلا أنَّه محفوظٌ في الصُّدور لا يؤثِّر عليه هذا الغسل، بخلاف أيِّ كتاب لو غُسل بالماء ذهب العلم الّذي فيه وضاع.
وهذا وجهٌ جيِّدٌ كان الممكن أن اقتصر عليه لولا روايات أُخرى بمعنى هذا الحديث جاء فيها (2): "لو أنَّ القُرْآنَ جُعِلَ فِي إهَابٍ ثمَّ أُلقِيَ فِي النَّارِ مَا احْتَرَقَ ".
وهذا الحديث ابتداءً يخالف الحسَّ والمُشاهدة ولا يتوجَّه القول بظاهره بحالٍ، ولهذا فقد روى ابن شاهين في " الترغيب والترهيب " (3) له عن أبي عُبيد القاسم بن سلاّم أنَّه قال: "وجه هذا عندنا أنَّ يكون أراد بالإهاب قلب المؤمن وجوفه الّذي قد وعى القرآن ". وهذا التَّوجيه من أبي عُبيدٍ مُشكلٌ أيضاً إذ يقتضي أن لا يدخل النَّار من جمع القرآن وحفظه. والمُعوَّل على عدم دخول النَّار العمل بالقرآن واتِّباعه لا مجرَّد حفظه. إذ قد يحفظه الكافر إن قصد. ولذلك فإنِّي أطمئنُّ لتفسير أبي عبد الرَّحمن، وأظنُّه عبد الله بن يزيد المُقرىء - الرَّاوي عن ابن لَهِيعة عند أبي يَعْلى إذ قال (4): " إنَّ من جمع القرآن ثمَّ دخل النَّار فهو شرٌّ من الخِنْزير".
(1) شرح صحيح مسلم: 17/ 198.
(2) ورد هذا الحديث عن عُقبة بن عامر، وعِصمة بن مالك.
¥