تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فالذين يلحنون في القراءة أو في الحديث كان ذلك جرحاً فيهم لدى كثير ممن سواهم؛ بل اقتضى نبذ روايتهم لدى أكثر أهل العلم، ومن هنا فعدد من الذين تكلم فيهم ما دفعوا عن ثقة ولا عن ضبط، وإنما تكلم فيهم من جهة اللحن؛ كأبي عبد الله بن عدي الحافظ صاحب الكامل، فقد كان يلحن، فتكلم كثير من أهل العلم في روايته بسبب اللحن، مع أنه إمام ضابط حافظ عدل ثقة، لكن تُكلم فيه من جهة اللحن فقط. ومثل هذا ما حصل لليث بن أبي سليم، مع أنه عدل، لكنه كان يلحن، ولذلك يقول فيه أحد الشعراء: ينادي ربه باللحن ليثٌ لذلك إن دعاه لا يجيب فتكلم فيه بعض الناس من قبل اللحن الذي يقع فيه فقالوا: لا يوثق بروايته للحنه فيها. واللحن يقلب المعنى كثيراً، ولذلك فإن أبا الأسود حين كلمته ابنته فقالت: ما أشدُّ الحر؟ قال: أيام ناجر. قالت: أنا متعجبةٌ لا مستفهمة. قال: ما هكذا تقول العرب، هي أرادت: ما أشدَّ الحرَّ! فقالت: ما أشدُّ الحر. ومثل هذا ما حصل للوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين عندما أتاه أعرابي فسأله فقال: ما شانك؟ فقال: فدعٌ في رصفي وعورٌ في عيني، فقال له عمر بن عبد العزيز: الأمير يريد ما شأنُك؟ فقال: جئت ممتاراً لأهلي. فسأله عمن معه ولحن في ذلك، ثم سأله حين أخبره أن معه ختنه فقال: ومن خَتَنَك؟ يقصد: ومن ختْنُك؟ فقال: حجام كان معنا في البادية. فقال له عمر بن عبد العزيز: الأمير يريد: ومن ختْنُك؟ ومثل هذا في اللحن كثير. ويقال: إن عمر بن عبد العزيز حين كان بالمسجد والوليد يخطب فقال الوليد: (يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةُ)، بالرفع، فقال عمر: وددتها والله. ود لو مات عندما قرأها هكذا! ولذلك فإن سبب قراءة سيبويه للنحو: أنه في البداية اشتغل برواية الحديث، ولكنه قرأ: (ما من أصحابي إلا من شئت لأخذت عليه ليس أبا الدرداء)، فقرأها هو: ليس أبو الدرداء، فلحنه أصحابه وهزءوا به، فعدل عن قراءة الحديث وذهب حتى تمرس باللغة، وألف الكتاب، ثم بعد ذلك روى الحديث. ولذلك فإن مالكاً رحمه الله قد درس النحو على الخليل بن أحمد، فجلس عنده أسبوعاً يلازمه حتى أتقن النحو فيه. والشافعي رحمه الله لم يشتغل بدراسة العلم حتى جلس في قبيلة هذيل، وحتى حفظ عشرين ألفاً من أشعارهم، ونحو هذا كثيرٌ جداً في حال سلفنا، فمن لم يكن ذا سلاح من علم النحو لا يمكن أن يفهم، ولا أن يُفتي في كثير من المسائل.

ثم بعد النحو علم مفردات اللغة: وهو العلم الثاني في الأهمية، فهذه اللغة العربية ليست مثل غيرها من اللغات، بل لها كثير من المفردات المتداخلة، بعضها يجمعها جذر واحد، وبعضها تختلف في الجذر، وبعضها يعرف في بعض المناطق دون بعض، والقرآن الكريم قد اختير من خير هذه الكلمات والمفردات، واختار الله له أفضل التعبيرات، ولذلك يأتي التعبير تارة بلغة حمير لغة أهل اليمن، وتارة بلغة أهل نجد، وتارة بلغة أهل الحجاز، فيختار من كل لغة أفصحها وأدقها معنىً وأحسنها ذوقاً، حتى يتكامل ذلك ويكون جميعاً من اللغة العربية المختارة. والذين يزعمون أن القرآن جاء بلغة قبيلة واحدة من العرب يغلطون في هذا، ويرد عليهم الاعتراض، وقد جاء أحد النحويين من أهل اليمن فكان في مجلس الخليفة هارون الرشيد، فأخبره أن القرآن نزل بلغتهم، وبدأ يسرد بعض الكلمات التي لا تعرفها قريش وهي في القرآن من لغة أهل اليمن، ويذكر شواهدها، فلما أطال كان بحضرته أحد القرشيين، فقال: أسمعت ما يقول هذا اليماني؟! قال: لا أدري ما يقول، غير أن الله تعالى يقول في كتابه: جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ [نوح:7]، ولم يقل: جعلوا شناترهم في صناراتهم! وهذه لغة أهل اليمن، الشناتر: الأصابع، والصنارات: الآذان. فالله تعالى يختار من الكلمات ألطفها وأقربها للذوق الصحيح السليم، سواء كانت من لغة أهل اليمن، أو من لغة أهل الحجاز، أو من لغة أهل نجدٍ أو غيرهم. ومن لم يعرف مفردات اللغة لم يحل له الكلام في التفسير ولا التفهم فيه ولا التدبر في كثير من الكلمات، بل إن كثيراً من الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتورعون من الكلام في بعض الكلمات التي جاءت في القرآن إذا لم تكن من لغتهم ولم يعرفوا دلالاتها ومدلولاتها، حتى إن أبا بكر رضي الله عنه قال: (أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا قلت في القرآن ما لا أعلم!). وعمر بن

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير