تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

لم ينتهِ القرن التاسع عشر إلاّ وقد عَظُم شأن الاستعمار الغربي، واستَفْحَلَ، وسقطَتْ أكثر الدول الإسلامية تحت سَيْطَرَته أو نُفُوذه، وبذلك دَخَلت صلات الإسلام والمسلمين بالحضارة الغربية في طَوْر جديد، أصبح فيه تأثيرُ هذه الحضارةِ الغازيةِ أكثر قُوَّة وفعالية؛ لأنها انتَقَلَتْ مع الجالياتِ الأجنبيةِ التي استَقَرَّتْ في بلاد المسلمين، وأصبحت تَحْيا بين ظهرانَيْهِم، وتعيشُ في قلب بلادهم، وتقدِّم نموذجًا حيًّا لأنماطها الفكريَّة والاجتماعية، يسْرِي من طريق المشاهدة والتقليد. وفرضتِ الدولُ الغربية الغازية لُغاتِها وثقافاتِها في البلاد التي احتلتها؛ تيسيرًا على الغربي المستعمر في التعامل من ناحية، وتمهيدًا لمحو طابع المستعمرات الشخصي وامتصاصها من ناحية أُخْرى. ومضت سياسة إرسال المَبْعُوثين من هذه البلاد في طريقها؛ ولكنها لم تعد حرة في توجيهها، فقد أصبح العدد الأكبر منها يُوَجَّه نحو الدول المُتَسَلِّطَة، وأصبح أكثرها يُوَجَّه توجيها أدبيًّا أو فلسفيًّا أو تربويًّا؛ بل إسلاميًّا في بعض الأحيانِ، يَتَلَقَّوْنَ فيه أصول البحث في التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، والفِكْر الإسلامي عن المستشرقين من الغربيين؛ صحيحهم – إن وجد – وسقيمهم – وما أكثره. وصارتِ المجالات الصناعية والخبرات الفنية وقفًا على المستعمرين الأوروبيين، الذين حَوَّلُوا المستعمرات وأهلها إلى مزارع، ومناجم، وعمال لإنتاج المواد الأولية. وأصبح التعليمُ في داخل هذه البلاد يَجْرِي على تخطيط عربي رسمه الاستعمار، وأشرف على تنفيذه بنفسه أو بأيدي صنائعه من الأصدقاء والعُملاء. وبذلك ظهر في مُعْجَم السياسة والحضارة ما يسميه الغربيون ومفكروهم بالـ ( Westernization)، وما يمكن أن نسميه بـ (التغريب)؛ أي طبع المستعمرات الأسيوية والإفريقية بطابع الحضارة الغربية. وجُهود الاستعمار في هذا تَشْمَل المُسْلِمينَ وغير المسلمين من أهل المستعمرات. ولكن جهدهم الأكبر وعنايتهم الأوفر كانت للمُسْلِمينَ بخاصة؛ لارتباط حياتهم في مختلف مناشِطِها بالدين.

لم يكن هدف الاستعمار من نشر حضارته هو تمدين البلاد التي استعمرها؛ كما كان يَتَشَدَّقُ به ويزعمه، ولكنه كان يقصد بذلك إزالة الحواجز التي تَقُوم بينه وبين هذه الشعوب، وهي حواجز تُهَدِّدُ مصالِحَهُ الاقتصادية، وتجعل مُهمَّة حراستها والمحافظة علها صعبة غير مأمونة العَوَاقب. كانت هذه الحواجز الناشئة عن الاختلاف في الدين، وفي اللغة، وفي التقاليد والعادات سببًا في إحساس الوطنيين بالنُّفُور من الأجنبي المُحْتلّ، وفي إحساس المستعمر بالغربة، بل الشعور بالخطر الذي يُحِيطُ به، ويَتَهَدَّده في بعض الأحيانِ. وكان هذا الإحساس بالغُرْبة وبالخطر أعظم ما يكون حين يتعامل المستعمر الغربي مع المسلمين. ذلك لأن الإسلام لم يكن مجموعة من الطقوس الدينية وحسب، كما هو الشأن في غيره من الأديان، ولكنه كان حضارة كاملةً يحملها لإسلام حيثما ذهب، لها لغتها التي لا يصح التعبد بغيرها، ولها قيمها وقوانينها التي تَمْتَد وتتغَلْغَل لتشمل سائر احتياجات الأفراد والجماعاتِ في سُلُوكهم، وفي مُعاملاتهم، وفي نشاطهم الفِكْري، والفني، والعاطفي على السواء. فلم يَمْضِ على ظهور الإسلام قرنٌ حتى كانتِ النظُم الإسلامية حضارةً كاملةً، يَحْمِلُها الإسلام معه حيثما ذهب، ليس فيها ثغرةٌ أو فجوةٌ. وقد كان هذا هو السبب في وحدة الحضارة الإسلامية، وفي قوة الرابِطَة التي تجمع أفرادها على هذه الحضارة، والتي تُذِيب ما بينهم من فوارق الجنس واللغة والمكان؛ بل تُذِيب الفوارقَ الناشئة عن اختلاف الزمان؛ لتضم هذه الأمة في وحدة كَوْنِيَّة، تردّ آخرها إلى أولها، وتجمع حاضرها وماضِيها، بسبب ثبات القِيَم الإسلامية، وقدرتها على الاستجابة لحاجات الحياة في تَقَلُّباتها وتَطَوُّراتها، وبسبب ثبات لغة هذا الدين ومرونتها، التي مكَّنَتْ للمسلم المعاصر أن يقرأ القرآن، وأن يقرأ ما كتبه فُقهاء المسلمين، وأدباؤهم وشعراؤهم وفلاسفتهم وعلماؤهم، على امتداد تاريخهم الطويل، دون أن يحس الغربة، أو تصده صعوبة في التعبير، أو تغير في الذوق الفني واللُّغوي، فكأنما أنزل القرآن اليوم، وكأنما بُعث شعراء الماضي الغابر وأدباؤه وعلماؤه، فهم يُخَاطبون هذا الجيل، بما

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير