ـ[محمد زياد التكلة]ــــــــ[15 - 07 - 09, 03:44 م]ـ
خواطر ومواقف في وفاة سماحة الشيخ ابن جبرين
محمد زياد بن عمر التكلة
الحمدُ لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه، والصلاة والسلام على رسوله ومصطفاه، وعلى آله وصحبه من والاه.
أما بعد:
فإن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا على فراق سماحة شيخنا عبد الله بن جبرين لمحزونون.
ووفاءً لبعض حق الشيخ على تلميذه؛ أسجّل بعض الخواطر الحاضرة والمواقف عنه رحمه الله، فقد كان رحمه الله مدرسةً سلفيةً علمية سلوكية، ومثالاً نادرًا في وقتنا.
كان رحمه الله مثالاً للجدّ منذ نشأته إلى مماته؛ فقد وُلد سنة 1349 في منطقة نائية، صعبة الظروف، ولم يَثْنِه ذلك عن التزود من العلم، فكان يمشي المسافاتِ الطويلةَ على قدميه للدراسة، فدرس على مشايخَ أبرزُهم العلامة عبد العزيز أبو حَبيب الشَّثْري، وابنه معالي الشيخ ناصر، وحفظ القرآن وعددًا من المتون، ثم انتقل إلى الرياض سنة 1374 ولازم سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله ملازمةً تامة، وصار من أبرز تلامذته في تلك المرحلة، وكتب عنه الكثير من شروحه وأماليه القيمة، ولكنه فقدها في حادثةٍ داهَمَ فيها الماءُ بيتَه كما أخبرنا، ودرس كذلك على سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وتأثر به كثيرًا، وأخذ عن غيرهم.
رحل قديمًا للدعوة في بوادي شمال المملكة سنة 1380، ومنذ ذلك الوقت وهو متصدٍّ للتدريس، وكان من أبرز مشايخ (دار العلم) في الرياض، ويتناوب الإفتاء فيها مع شيخنا عبد الله العقيل حفظه الله، ويصبر على الطلبة صبرًا عجيبًا، فقد حدّثني شيخنا سعد الحميد حفظه الله -وهو من كبار تلاميذه- أن الشيخ كان يقعد في حلقته قديمًا الاثنان والثلاثة، ويصحح لهم تلاوة القرآن، ويأتيه العوام وأشباهُهم، ويصبر على تعليمهم أوليات العلم بصدر رحب.
وأما الذي عاينتُه وعاينه الناس آخرَ حياته: فهو أن وقته مستغرق في التدريس والإفادة، من بعد الفجر إلى ما بعد طلوع الشمس، وربما درّس في المجلس الواحد عشرة كتب مختلفة، وبعد العصر إلى ما بعد العشاء، مع إجابة الفتاوى، والقراءة للرقية، ومراجعة الكتب والرسائل له ولغيره، وكتابة الردود والمقدمات والبيانات، والشفاعات -وما أكثرَها! -، واستقبال الناس وقضاء حاجاتهم، وزيارة العلماء والفضلاء، وحضور المناسبات، فلا يرتاح الشيخ في يومه وليلته إلا قليلاً، وكان كثير السفر في الدعوة والتدريس، ولا سيما في الصيف.
وكان الشيخ حافظًا للود، فقد رأيته يزور شيخنا عبد الله العقيل، وبينهما حبٌّ وثناء متبادل، وأخبرنا الشيخ الصالح المعمَّر هميجان القحطاني في هجرته القريبة من الرين أن الفقيد كان يزوره كل مدة، وكان يزور بعض كبار طلبته، مثل شيخنا عبد العزيز بن قاسم حفظه الله.
نشاطٌ وجِدٌّ في المكرمات عجيب! لم يفتر عن ذلك إلا أيام اشتداد مرضه، بل حتى في ذلك الظرف كان يسعى ما استطاع لنفع الناس، وكان من أواخر أعماله القراءة على الماء للرقية قبل وفاته بساعات، وأعلن عن دورتين علميتين في مسجد الراجحي بشبرا، وفي مسجد الصانع بالسويدي.
ومن أمثلة همة الشيخ وجدّه: رسالته الضخمة للدكتوراه، التي كانت في تحقيق شرح الزركشي على الخرقي، إذ كانت في سبع مجلدات كبار، والعادة في مثل ذلك أن يتقاسمه جماعة في رسائل جامعية.
كان شيخنا -رحمه الله- آيةً في التواضع، يجلس في غالب دروسه العامة بين طلبته، لا خلف منصة وطاولة، ولا يتمّيز عنهم بارتداء المشلح (البشت)، ويتواضع لطلبته جدًّا، وهكذا بيته متواضع جدًّا، وأثاثه من النوع العادي .. زهدٌ ماثلٌ ممن لو شاء سَعَت الأموالُ إليه، والسيارة التي كان يركبها ذُكر لي أنه لم يشترِها، بل أُهداها له أحدُ الأمراء مع عزيمةٍ بأن يستخدمها .. بابُه مفتوح، وقلبه مفتوح، يقابلك دائمًا بابتسامته المحببة؛ التي تفرض عليك احترامَه مع لحيته البيضاء المهيبة، تحاول جاهدًا أن تقبّل رأسه فلا تنجح إلا نادرًا؛ لأنه يعترضك بوضع ساعده فوق رأسه، أو يمسك عنقك، وما قوي الناس على تقبيل رأسه – بشيء من اليُسر والأمان! - إلا في أواخر سني عمره!
وأذكر في ذلك موقفين معي:
¥