تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

مرة في أحد دروسه ذكر معلومة مشتهرة عن الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، لكنها غير ثابتة عند التحقيق، فكتبتُ ورقة بذلك وأرسلتُها للشيخ، فقرأها أمام الحضور، وقال بكل تواضع: هكذا كتب الأخ، ونستغفر الله إن أخطأنا.

ولا أنسى لَمّا طلبت من سماحته الكتابة بشأن القطعة المكذوبة التي وضعها بعض الغلاة وزعموا أنها من مصنف عبد الرزاق الصنعاني، وكتبتُ فيها كتابة، وأعطيتُها مع الأصل المردود عليه لمكتب الشيخ، فلم يَرُعني إلا اتصالٌ في اليوم التالي، وآخر ما توقعتُه أن يكون المتصل هو الشيخ بنفسه، فقال بنبرته المعتادة بعد السلام: معكم عبد الله بن جبرين -هكذا دون ألقاب- ولعله قال: (معكم أخوكم) أيضًا! وقال: اتصلت بك قبل ذلك وجوالك مغلق لأشكرك على كتابتك، وقد كتبتُ لك بيانًا في الموضوع تفضل وخذه من المكتب، وختم بدعوات صالحات أرجو من الله إجابتها، وأنهى المكالمة بالسلام، وأنا لا أكاد أستوعب الموقف الذي أثّر بي كثيرًا: من تواضع الشيخ، وسرعة استجابته - مع انشغاله التام بالدروس المكثفة وقتها وغيرها- والتشجيع والدعاء، وكان بإمكانه أن يوكل أمر الإخبار لأحد أبنائه أو العاملين في مكتبه، أو يكتفي بالاتصال الأول! ولكنه سماحة الشيخ ابن جبرين بتواضعه وأخلاقه الرفيعة! ولما أخذت البيان ظهر لي أن الشيخ اقتطع من وقته الثمين جزءًا ليس قليلاً لهذا الموضوع، فقد قرأ الأصل والرد الطويلين، وراجع لأجله بعض الكتب، وكان بيانه من أهم البيانات التي كُتبت في العالم الإسلامي في إنكار تلك الجريمة النادرة من الكذب المعاصر في الحديث النبوي.

وكان رحمه الله من الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، والناصحين للخاصة والعامة، والمناصرين لقضايا المسلمين، وله المواقف المشرفة في ذلك، وهو من أبرز الرادّين على بعض الفرق الزائغة، وكان راسخًا في موقفه منه المنطلق من الثوابت العقدية، ولم يكترثْ بأبواق من تميل بهم العواطف والدعايات الإعلامية، مع تعرضه لمحاولات التهديد والإيذاء في سفره العلاجي الأخير بألمانيا.

كان الشيخ رحمه الله حافظًا للعلم، عجيبَ الاستحضار، ينتقل من درس إلى آخر، ويتنقل من فن لغيره، ويشرح في الجميع، وينقل الأقوال دون مراجعة ولا تحضير سابق، وأنّى يجد الوقت لذلك؟ وسمعت من شيخنا سعد الحميّد حفظه الله مرة يقول: الحمد لله أنه بارك لنا في حافظة شيخنا واستحضاره للمسائل.

وكان الشيخ من مراجع الفتيا للناس في حياة شيخه ابن باز، بل نُقل عن سماحة الشيخ ابن باز الاستشهاد بفتوى شيخنا ابن جبرين، وكذلك سمعت من شيخنا عبد الله العقيل، وأحال عليه في بيانه عن الجزء المكذوب على مصنف عبد الرزاق.

وكان - مع تضلعه في المذهب الحنبلي - متبعًا للدليل، راجعًا إليه، ولو خالف المنقول من المذهب.

ومن القصص المعبرة التي شهدتها له:

أنه تكلم في إحدى دروس التسهيل للبَعْلي عن العمال الوافدة، واستطرد في الكلام إلى أن أصاب فيه -من غير قصد- جَرْحًا في نفوس بعض الحضور من الوافدين، وفي نهاية الدرس قرأ المعيد ورقة جاءت للشيخ: بأنك قلتَ كذا وكذا وآلمتنا، فقال الشيخ أمام الملأ الكبير: إنني لم أكن أقصد هذا، وأعتذر، وأرجو المسامحة، ونحو ذلك.

لم تنته القصة هنا، كان ذلك الدرس في مسجد شيخ الإسلام ابن تيمية في حي سلطانة بعد صلاة العصر، وكان لشيخنا درسان متواليان بعد المغرب والعشاء في مسجد الراجحي بشبرا، وكنت ممن حضرهما، وبعد درس العشاء طُرحت الأسئلة عن الدرسين، فجاء ضمنها ورقة لأحدهم مفادها: إنني يا شيخ بعد أن سمعت منك الكلام السابق في درس العصر تضايقت، ووقعتُ فيك، واغتبتك، فأرجو منك مسامحتي. فما كان من الشيخ إلا أن قال بابتسامته المعتادة ما معناه: قد حللتك، واشهدوا أنني حللت كل مسلم!

فلا غرو أن منحه الله القَبول لعلمه وعمله وسلامة صدره وتصديه لنفع الناس، فما أكثرَ ما سمعنا الأسئلةَ التي تطرح عليه تستهل بعبارة: إني أحبكم في الله، ورأى الجميع اهتمام الناس وتأثرهم بخبر مرضه الأخير وتلهفهم لسماع أخباره في الرحلة العلاجية بألمانيا، ثم لما فَجَعَ الناسَ خبرُ وفاته المفاجئ الساعة الثانية والربع بعد ظهر الاثنين 20 رجب 1420 انتشر الخبرُ بين الناس في السعودية وخارجها في مدة وجيزة، وعزى الناس بعضُهم بعضًا، ودمعت العيون، وتأثرت القلوب، وتوافد الناس لمستشفى التخصصي حيث توفي الشيخ، وإلى منزله، وإلى مغسلة الدريهمية للأموات، وكانت الجنازة الحافلة في ظهر اليوم التالي التي قلّ أن شهدت مثلها الرياض، حيث امتلأ الجامع الكبير (مسجد تركي بن عبد الله) وساحاته الخارجية بالناس، لا أشك أنهم عشرات الآلاف، وارتفع النحيب والنشيج عليه من أرجاء المسجد وقتَ الصلاة عليه، واجتمع في مقبرة العود حيث دُفن جمعٌ غفير، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وفي هذا المشهد المهيب استذكر في خشوع قوله تعالى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61].

والحديث ذو شجون، والمواقف والعبر لا تنتهي، وقد أدليتُ بدلوي مع وجود من هو أولى مني، لكنه -كما أسلفت- بعض الوفاء لحق شيخي الذي استفدتُ منه الكثير.

وأختم هذه الكتابة، وأنا والله متأثر في الصميم بوفاة شيخنا، متفائلاً بما أخبرنيه اليوم أخي الفاضل يوسف بن إبراهيم بن العلامة عمر بن سليم، إذ ذكر أنه رأى الشيخ في الرؤيا عند الدفن وقد كُشف عن وجهه، فصار يعظ الناس ويذكرهم، وكان نور وجهه شيئًا عجيبًا.

أسأل الله أن يغفر لنا ولسماحة شيخنا ولجميع المسلمين، وأن يبارك في عقبه وما خلّف من علمه، وأن يجمعنا به في الفردوس الأعلى: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، إنه على كل شيء قدير.

وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

http://alukah.net/articles/1/7038.aspx

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير