وكنت قد التزمت دروسا رئيسة لثلاثة من العلماء الكبار أيضا، وهم الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله! في دروسه بالجامع الكبير وجامع سارة ومسجد الحي - وهي الدروس التي ربطني بها شيخي الأول، أعني والدي مطر رحمه الله وقد تحدثت عن شيء من ذلك في ذكريات بدايات الطلب -؛ والشيخ عبد الله بن حسن بن قعود رحمه الله! في دروس خاصّة متخصصة منتظمة في منزله بل في مكتبته الخاصة؛ والشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الغديان حفظه الله! في دروسه بمسجد الإفتاء، ثم في درسه المتخصص بعد العشاء من مساء كل إثنين ..
وقد عتبت على محرر صحيفة عكاظ بالأمس حين زعم في تقرير الصحيفة عن الشيخ رحمه الله أني أحد تلامذة الشيخ! وهو شرف لم أحظ به على الوجه الصحيح، إذ لا تكفي المدة التي قضيتها في حلقاته للزعم بأني من تلاميذه؛ فالتتلمذ ليس مجرد الحضور في الحلقة ولو لبضعة أشهر! وقلت له: أتريد أن تجعلني ممن يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا!
وكم أسفت على عجزي عن حضور دروس الشيخ المنتظمة، وإن كنت قد واسيت نفسي بالإفادة من دروس الشيخ المسجلة، ومن ذلك شرحه لمنهج السالكين ضمن الدروة العلمية المكثفة في جامع ابن المديني، فقد كررت سماعه، وأفدت منه في فرائد علمية، ومعارف ثقافية، قلّ أن تجدها في شروح الشارحين!
كما كنت أسأل الشيخ - رحمه الله - عن بعض ما يشكل عليّ من مسائل يشتد فيها الخلاف، أو يعسر فيها الترجيح .. وربما قصدته في منزله أو مسجده لأسمع منه رأيه في مسألة أو جوابه على مشكل ..
ولا زلت أذكر فتح مكتبته لنا - أنا وبعض زملائي في المرحلة الثانوية - حين كلفنا أستاذ مقرر التفسير، الشيخ الدكتور يوسف عثمان جبريل رحمه الله! ببحث رجال أسانيد بعض الأحاديث الواردة في تفسير سورة (ص) .. وكان هذا الأستاذ المربي قد أرشدنا إلى الاستعانة حينها بمكتبة الشيخ عبد الله رحمه الله، وهنا أتذكر مقولة أستاذنا د. يوسف حين كان يردد ضمن توجيهاته اليومية الشيقة التي لا تخلو من طرفة أو لطيفة، النافعة التي لا تخلو من رسالة، وذلك في الإذاعة المدرسية أثناء طابور الصباح، قال لنا مرة، وكررها بعدُ مراراً في مناسبات شتى: أنا جبريل السودان لا جبرين السعودية! وهي عبارة لها قصة ..
أما اللقاءات به رحمه الله، فكثيرة بحمد الله، وهي لقاءات متنوعة، دورية وغير دورية، ما بين علمية وفكرية ودعوية .. وقد كان لوجود الشيخ فيها أثر كبير في نفوس من يحضرها من العلماء وطلبة العلم، فضلا عمّن تشدّه رؤية الشيخ وتثير فيه كوامن تأمّل من أمثالي ..
وقد أفدت - كغيري من طلبة العلم - من فتاويه الفريدة في تحقيق مسائل خالف فيها بعض الآراء التي كانت سائدة، مما كنت أميل إلى قول الشيخ فيها نتيجة بحوث و مدارسات، كفتواه رحمه الله في جواز الرسوم في مجلات الأطفال الهادفة، وفي أفلام الكرتون النافعة، وفي المسعى حيث فتواه المدعّمة بشهادته، وهو من هو في العناية بالتاريخ والتأريخ ..
لقد كان آخر لقاء جلست فيه مع الشيخ وجها لوجه مساء الإربعاء ليلة الخميس العاشر من شهر محرم من هذا العام: عام ثلاثين وأربعمائة وألف، وذلك على مائدة طعام في مطعم برج جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية! وكان ينثر درر علم حتى أثناء الأكل! بل لم يترك الاحتساب في هذه اللحظات، فقد نصح من بجانبه - بلطف عجيب - حين نطق هاتفه النقال بدعاء غير سائغ!
وكان حضور الشيخ للجامعة حضور وفاء لشيخه محمد بن إبراهيم رحمه الله! وذلك بمناسبة مناقشة رسالة الدكتوراه المقدمة من الطالب الشيخ / سليمان بن عبد الله التويجري، بعنوان: [اختيارات سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في العبادات والمعاملات عدا الطهارة].
وأخيرا، فلقد كان الشيخ رحمه الله عالم أمة! وكان قدوة في العلم والدعوة والاحتساب، وعلو الهمّة، والجَلَد في طلب العلم ثم في نشره، وكان موسوعي العلم، جَمَعَ بين علوم الشريعة وعلوم الآلة، والمعرفة بالتاريخ والأنساب، ومعارف أخرى ..
لقد كان الشيخ رحمه الله من نوادر زهّاد العصر .. يهضم ذاته ليوصل رسالته! لا تهمه الجمهرة، ولا تستهويه الشهرة، ولا يقف خارج قناعاته مراعاة لأحد!
رحم الله الشيخ العلامة عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، فقد كان أحد أركان الصحوة الإسلامية المباركة ورموزها الأجلاء، ومن أهل الوفاء لها: رعاية ونصحا، وتصحيحا، وذبا عنها وعن رموزها، حتى من الأجيال التي هي دونه سنا ومنزلة .. لا تكاد تجد لجنة شرعية في مؤسسة دعوية أهلية إلا وله فيها عضوية فاعلة، وفتاوى فريدة، بعضهم ينص فيها الشيخ على أنها فتوى خاصة بإقليم كذا أو بأهل البلد الفلاني لا يجوز إعمالها في غيره!! أي أنها من فتاوى السياسة الشرعية المؤقتة!!
رحم الله الشيخ العلامة ابن جبرين؛ فكم كنت أأنس لرؤيته، وكم أجد بينه وبين شيخنا عبد الله بن قعود من موافقات عجيبة، وتوافقات ليست بالغريبة ..
http://www.lojainiat.com/index.php?action=showMaqal&id=8947
¥