سلّم الإمام، وبدأ الناس في الخروج من المسجد، وانتظرت اندفاع الناس، ورأيت عددا من الأحبة والمشايخ فعزيتهم، وكان منهم الشيخ عبد الله المطلق حفظه الله، وقد رأيته متأثرا تأثرا لا يستطيع إخفاءه .. ومنهم مِن خارج الرياض حبيبنا الشيخ سعد الغنام حفظه الله! وقد أخبرني أنه جاء مع جمع من الإخوة من الخرج، ليشهدوا الجنازة ..
وما إن خرجت من المسجد حتى رأيت بعض أحبتنا من أهل مدينة جُدّة! فسألته بعد أن تبادلنا التعازي: منذ متى وأنتم في الرياض ولم تخبرونا؟ فأجاب: أتينا البارحة في وقت متأخر، حيث لم نتمكن من المجيء جواً، وخشينا فوات الجنازة، فأتينا بالسيارات، مع جمع من الدعاة وطلبة العلم، وذكر لي بعضهم من أعيان مدينة جدة! فحمدت الله عز وجل أن يسر لهم الوصول، والمشاركة في الصلاة على عالم لم يَرُدّ لأهل جُدّة طلبا كما يعبر أحدهم، لا طلب محاضرة، ولا دورة علمية، ولا دعوة إلى عضوية في مجلس إدارة مكتب دعوي، ولا غيره!
قلت: هذا ديدن الشيخ رحمه الله! فهو لا يرد طلبا يمكنه تحقيقه، لا لأهل جدة ولا لغيرهم! من شرق المملكة إلى غربها، ومن جنوبها إلى شمالها، وما بين ذلك! فأيّ همة تلك الهمّة! وأي توفيق ذلك التوفيق! وما أراه إلا عوناً من الله للشيخ، فلعل الله علم منه صدق النية ويسّر له العمل .. وإذا أراد الله بعبد خيرا هيأ له من أسباب الخير ما يعجز عنه غيره ..
ومما لفت انتباهي: كثرة الأخوات اللاتي قدمن للصلاة على الشيخ رحمه الله! وعلمت من أخي يعقوب أن صفوف الناس كانت أكثر مما رأيت وأنا أنصرف .. وهنا تذكرت أختا اتصلت عليّ ليلة الثلاثاء، تسأل: هل يجوز أن أصلي على الشيخ صلاة الغائب! لأنني خارج الرياض؟!!
وانطلق الناس إلى المقبرة، فمنهم من وصل، ومنهم من انقطعت به السبل، لشدة الزحام، فقد تحولت بعض الطرق إلى مواقف للسيارات، وأحدث هذا نوعا من الخلل في وصول الراكبين، فسبق الراجلون الراكبين ..
حقا لقد كانت جنازة الشيخ رحمه الله من الجنائز الكبيرة، في قائمة الجنائز الشهيرة في مدينة الرياض، كجنازة الشيخ حمود التويجري، والشيخ صالح الغصون رحمهما الله، وغيرهم ..
6) لقد كانت هذه الجنازة الكبيرة المهيبة، رداً صارخا على من يظنون أنهم يقللون من حب الناس للعلماء، واقتداء الناس بهم، حين ينالون منهم بشكل أو آخر!
لقد كانت مقولة الإمام أحمد التي تبيّن سنة من سنن الله في وقوف الأمة الصالحة إلى جانب علماء السنة، مهما نال أهل البدعة منهم " بيننا وبينهم الجنائز " .. وهو وقوف شهادة بالديانة، وسلامة المنهج .. ومثالها في الماضين: جنازة الإمام أحمد بن حنبل ذاته التي خرج فيها أهل بغداد حبا له، لا جماهير شهرة كجنائز بعض أهل الفن، أو تغرير إعلامي كجنازة عبد الناصر مثلا .. وكثرة الحضور في الجنائز التي أشار إليها الإمام أحمد رحمه الله، ما هي إلا صورة من شهادة الأمة الصالحة (شهداء الله) العدول باجتماع شهادتهم .. لا شهود المشاهير .. التي تدفع إليها كوامن النفس التي تبحث عن إكمال مشاعر النقص في الاقتراب من المشاهير! أو حب الظهور معهم، ولو للذكرى في صورة أو لقطة!!
7) وأمَّا الحديث عن الشيخ العلامة عبد الله ابن جبرين فحديث ذو شجون عند من لم يلازمه مثلي، فكيف بمن لازمه وتتلمذ بين يديه دهرا؟!
الشيخ العلامة عبد الله ابن جبرين عالم أتشرف بوجود اسمه في بعض الوثائق الشخصية الرسمية الخاصة بي .. لكنني أقول بكل أسف: لم أشرف بالتتلمذ عليه، وغاية ما يمكن أن أقوله في موضوع التتلمذ عليه، هو حضوري لبعض دروسه في مُدد لا تتجاوز بمجموعها بضعة أشهر! حين كان ينوب عن شيخنا العلامة عبد العزيز ابن باز رحمه الله في الجامع الكبير إيَّاه، وبعض حلقاته في جامع الراجحي القديم بحي الربوة ..
والسبب في ذلك التزامي بنصيحة أحد شيوخي في عدم الإكثار من الشيوخ في فترة الطلب الأولى؛ لأن ذلك مما يفوّت الإفادة العلمية المطلوبة، ولا سيما في الجانب التأصيلي ..
¥