يقول كعب: فلما بلغني أنه قد توجه قافلاً -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- حضرني همي -حضره بثه وحزنه- قال: فطفقت أتذكر الكذب، وأقول: بِمَاذا أخرج من سخط رسول الله صلى الله عليه وسلم غداً؟ واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي؛ فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً زاح عني الباطل، وعرفت أني لن أخرج منه أبداً بشيء فيه كذب، فأجمعت صدقه. ويا له من رأي! وقدم صلى الله عليه وسلم، ثم جلس للناس، وجاءه المُخلَّفون يعتذرون إليه ويحلفون له، فقبل منهم صلى الله عليه وسلم علانيتهم، ووكَل سرائرهم إلى الله -وهذا هو منهجنا- وجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسُّم المغضب، ثم قال: تعال، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال: {ما خلَّفك يا كعب؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ فقلت: يا رسول الله! والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، والله لقد أُعْطيتُ جدلاً، ولكني والله لقد علمت لَئِن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكنَّ الله أن يُسخطَك عليَّ، ولئن حدثتك حديث صدق تَجِد عليَّ فيه، إني لأرجو فيه عفو الله.
والله -يا رسول الله- ما كان لي من عذر، والله ما كنت أقوى ولا أيسرَ مني حين تخلفت عنك، فقال صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، قم حتى يقضي الله فيك}.
صِدْقٌ ووضوحٌ وصراحةٌ، لا التواء ولا مراوغة.
علم كعب أن نجاته في الدنيا والآخرة إنما هي بالصدق، وقد هدي ووفق إلى الرشد والصواب، والموفق من وفقه الله.
يقول كعب: فقمت وسار رجال من بني سلمة، فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك -يا كعب - قد أذنبت ذنباً مثل هذا، أوقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله بما اعتذر له المخلفون؟ قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك: يقول: فو الله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع، فأُكذِّب نفسي.
عباد الله: ما أشد خطر صديق السوء! كاد يهلك كعب بسبب بني عمومته الذين يظهرون بمظهر الناصح المشفق وهم يدفعون به إلى وادٍ سحيق من الهلاك، هلك فيه جمع كبير من المنافقين.
إنها مقالة ويا لها من مقالة! كثيراً ما تتكرر في مجالسنا! يتهمون الصادق بأنه طيب القلب غِرٌ لا يحسن المراوغة ولا المخارج، ويصفون الكاذب بالذكي الألمعي العبقري، وكبرت كلمة تخرج من أفواههم! أرأيت هؤلاء عندما وصفوا الأمر لكعب بأنها أول كذبة ولا ضير فيها، وسيعوضها استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، وكل ذلك وسائل لتزيين الباطل؛ يبهرجها قرين السوء من حيث شعر أو لم يشعر.
فمن العداوة ما ينالك نفعه ومن الصداقة ما يضر ويؤلم
وأُعلِنَت المقاطعة لهذا ولصحبه؛ بل التربية النبوية العميقة، يقول كعب: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا -نحن الثلاثةَ- من بين كل من تخلَّف عنه، فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا حتى تنكرت لي الأرض؛ فما هي بالأرض التي أعرف، ولبثنا على ذلك خمسين ليلة، وكنت أَشبَّ القوم وأجلدَهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف الأسواق، فلا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلِّم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرَّكَ شفتيْه برد السلام علي أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه صلى الله عليه وسلم فأسارقُه النظر، فإذا أقبلتُ على صلاتي أقبل إليَّ، وإذا الْتفتُّ نحوه أعرض عني
حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إليَّ؛ قال: فسلمت عليه، فوالله ما رد عليّ السلام. قال: فقلت: نشدُتك الله! هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، فنشدته فسكت، فأعدت عليه؛ فقال: الله ورسوله أعلم! ففاضت عيناي، وتولَّيت حتى تسورْتُ الجدار، أهيم على وجهي.
وانظر أخي في الله كيف تكاتف المجتمع المسلم بكامله وامتثل الأمر الموجه إليه، فلا أحد يكلمه حتى ولو كان ذلك في غيبة أعين الرقباء، نعم. إن الرقابة لله! حتى ولو كان ابن عمه، نعم. إن المراقبة لله! إن أضر شيء على المجتمع أن يجد أهل الفسق والفجور صدوراً رحبة تحتضنهم وترضى عنهم وتبجلهم وتقدرهم، ولو أن العصاة والمنحرفين وجدوا مقاطعة وازدراءً عاماً لكان دافعاً إلى أن يرشد الغاوي ويستقيم المعوج ويصلح الطالح.
¥