تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

يأمر بإغاثة المكروب وإعانة العاجز وليس هناك من يملك العون ولا يأخذ بأسبابه بل كيف يأمر الإسلام بالجهاد وليس هناك من قوة في البدن وقوة في العدة، وما يتبع ذلك من اللوازم والمقومات المادية التي تسير وفق سنة الله تعالى الكونية.

إن كل النصوص الشرعية تتوافق مع هذا المعنى الشرعي (يا يحيى خذ الكتاب بقوة) (خذوا ما آتيناكم بقوة) (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة)، وقوله صلى الله عليه وسلم (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير). وفي احترام الوقت أيضا (لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد).

ومن التفاعل مع الحياة في الإسلام الدقة في الأداء، فلا يكفي أن تعمل عملا على صفة ما حتى يكون متقنا ودقيقا، وهذا مستنبط من دقة الخلق ودقة اللفظ في الشرع، ويصدق هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم (رحم الله امرئ عمل عملا فأتقنه)، وتجد هذا المعنى في الوعد والموعد، وكيف عد النبي صلى الله عليه وسلم المخلف لهما في صفات المنافقين. ولا شك أن هذه الدقة وهذا الضبط لا ينطبق فقط على العبادات المحضة، بل هو سلوك وخلق في حياة المسلم.

ومن أعظم الأدلة على تفاعل الشريعة مع الحياة أنها شريعة معللة مبنية على الحكمة التي يفهمها الإنسان، وعلى المصالح والمفاسد والموازنة بينهما، وليس هي مجرد أحكام ثابتة تم تقريرها مسبقا منذ أكثر من ألف سنة، بل الأحكام الشرعية ترتبط بالمصالح الشرعية، وترتبط بالعلل وجودا وعدما، وتتغير بتغيرها، وأنه ليس في الشرع أمرا شرعيا خاليا من الحكمة والمصلحة.

قال تعالى (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) فالشرع يحلل كل الطيبات، ويحرم كل الخبائث لما في ذلك من الخير والمصلحة العامة.

وقال شيخ الإسلام في المجموع (14: 144): والمقصود أن كلما أمر الله به أمر به لحكمة، وما نهى عنه نهى لحكمة، وهذا مذهب أئمة الفقهاء قاطبة وسلف الأمة وأئمتها وعامتها فالتعبد المحض بحيث لا يكون فيه حكمة لم يقع. نعم، قد تكون الحكمة في المأمور به وقد تكون في الأمر وقد تكون في كليهما. فمن المأمور به ما لو فعله العبد بدون الأمر حصل له منفعة كالعدل والإحسان إلى الخلق وصلة الرحم وغير ذلك، فهذا إذا أمر به صار فيه حكمتان: حكمة في نفسه وحكمة في الأمر، فيبقى له حسن من جهة نفسه ومن جهة أمر الشارع، وهذا الغالب على الشريعة وما أمر الشارع به بعد أن لم يكن إنما كانت حكمته لما أمر به.

ثم قال: وأما فعل مأمور ليس فيه مصلحة ولا منفعة ولا حكمة إلا مجرد الطاعة والمؤمنون يفعلونه فهذا لا أعرفه. أهـ

ولهذا أبطل الشرع الحيل في الدين لأنها تتنافى مع الحكمة وتقتضي أن الشرع لا حكمة فيه ولا مصلحة، بل هو جامد لا يتفاعل مع الحياة إلا من خلال الحيلة وهذا من أعظم الباطل وأفسده.

ولهذا لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له، لأنه يتحايل على شرع الله في أن المطلقة ثلاثا لا يجوز أن ترجع إلى مطلقها حتى تنكح زوجا غيره نكاحا حقيقيا لا شكليا لتتحقق المصلحة التي أرادها الله تعالى.

وكذلك فيما يسمى (مد عجوة) وهو أن يبيع ربوي بجنسه ويبيع معه ما ليس من جنسه ليتجنب الوقوع في الربا في ظنه، فقد حرم الأئمة مالك وأحمد والشافعي ذلك تحريما مطلقا لما فيه في تحليل ما حرم الله بالحيلة، وما يلزم من رمي الشريعة بالجمود وعدم الحكمة.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها).

ومن هذا الباب أيضا أنه ليس في الشريعة حكم جاء على خلاف القياس كما يتوهمه بعض الفضلاء، بل الشريعة كلها على وفق القياس الصحيح.

سئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله عما يقع في كلام كثير من الفقهاء من قولهم: هذا خلاف القياس لما ثبت بالنص أو قول الصحابة أو بعضهم وربما كان حكما مجمعا عليه فمن ذلك قولهم: تطهير الماء إذا وقع فيه نجاسة خلاف القياس بل وتطهير النجاسة على خلاف القياس والتوضؤ من لحوم الإبل على خلاف القياس والفطر بالحجامة على خلاف القياس والسلم على خلاف القياس والإجارة والحوالة والكتابة والمضاربة والمزارعة والمساقاة والقرض وصحة صوم المفطر ناسيًا والمضي في الحج الفاسد كل ذلك على خلاف القياس وغير ذلك من الأحكام: فهل هذا القول صواب أم لا؟ وهل يعارض القياس الصحيح النص أم لا؟

فأجاب: الحمد لله رب العالمين. أصل هذا أن تعلم أن لفظ القياس لفظ مجمل يدخل فيه القياس الصحيح والقياس الفاسد. فالقياس الصحيح هو الذي وردت به الشريعة وهو الجمع بين المتماثلين والفرق بين المختلفين الأول قياس الطرد والثاني قياس العكس وهو من العدل الذي بعث الله به رسوله.

فالقياس الصحيح مثل أن يكون العلة التي علق بها الحكم في الأصل موجودة في الفرع من غير معارض في الفرع يمنع حكمها ومثل هذا القياس لا تأتي الشريعة بخلافه قط.

وكذلك القياس بإلغاء الفارق وهو: أن لا يكون بين الصورتين فرق مؤثر في الشرع فمثل هذا القياس لا تأتي الشريعة بخلافه.

وحيث جاءت الشريعة باختصاص بعض الأنواع بحكم يفارق به نظائره فلا بد أن يختص ذلك النوع بوصف يوجب اختصاصه بالحكم ويمنع مساواته لغيره لكن الوصف الذي اختص به قد يظهر لبعض الناس وقد لا يظهر وليس من شرط القياس الصحيح المعتدل أن يعلم صحته كل أحد فمن رأى شيئًا من الشريعة مخالفًا للقياس فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه ليس مخالفا للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر.

وحيث علمنا أن النص جاء بخلاف قياس: علمنا قطعا أنه قياس فاسد بمعنى أن صورة النص امتازت عن تلك الصور التي يظن أنها مثلها بوصف أوجب تخصيص الشارع لها بذلك الحكم فليس في الشريعة ما يخالف قياسًا صحيحًا لكن فيها ما يخالف القياس الفاسد وإن كان من الناس من لا يعلم فساده. أهـ

وقد ألف شيخ الإسلام كتابا كبيرا سماه (درء تعارض النقل والعقل) بين توافق الأحكام مع سليم العقول.

كتبه أبو بكر البغدادي

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير