• القصور في فهم المنهج السلفي، والظن بأنه منهج تعبد علمي ظاهري لا علاقة له بالسلوك والأخلاق، بل الجهاد في سبيل الله، والظن بأن من كانت معرفته لمسائل الاعتقاد صحيحة، وكانت حركات صلاته وسائر أعمال العبادة الظاهرة أقرب إلى السنة مع قلة فعله للخيرات فهو أكثر سلفية ممن حركات صلاته وظاهر عبادته دون ذلك مع كثرة فعله للخيرات. وهذا إنما يأتي من الفهم الفاسد للمنهج السلفي، فكأن الفرق بين السلفي عندهم وغير السلفي في تقييم الناس والنظر إليهم مثل الفرق بين المؤمن والكافر، حيث يحسب للمؤمن ما يعمله من الخيرات، ولا يحسب للكافر حسناته على أساس قوله تعالى (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا).
وإذا كان أصل الاتباع هو من أبرز سمات المنهج السلفي، فإن ذلك يعني الشمولية في اتباع الشريعة في جوانبها العقدية والسلوكية والأخلاقية، العلمية منها والعملية. وإن المبالغة في أخذ جزء ما من جزئيات الدين، سيكون حتما على حساب باقي الأجزاء، وسيوقع صاحبه في الانحراف الذي يعيبه السلفيون على الصوفيين والمذهبيين ونحوهم.
ففي الجانب الأخلاقي، روى الشيخان عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا، وكان يقول (إن من خياركم أحسنكم أخلاقا).
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده).
وفي الصحيحين أيضا عنه رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة).
وإذا قسمنا العمل إلى عقيدة وعبادة ظاهرة وباطنة ومعاملات وأخلاق، فكأن السلفية عندهم هي إكمال الجانب العلمي في العقيدة وإكمال العبادة الظاهرة دون سائر الجوانب القلبية والسلوكية والأخلاقية. وهذا من أعظم القصور وأفسده. إذ مبنى الدين على تحقيق المقاصد الشرعية، والمصالح الشرعية، وليس مجرد العلم أو الهدي الظاهر، بل التفاعل مع الواقع بقدر ما يحقق أعظم المصلحتين، أويفوت أعظم المفستدين وإن احتملت الأخرى، لتحقيق المطالب الشرعية من العبادة والعدل والإحسان والنصرة، وسائر المطالب الشرعية الأخرى، وأن الأحكام الجزئية والتفصيلية إنما كان المقصود من وضعها تحقيق تلك المصالح. ولذا فقد فصل شيخ الإسلام في بيان أن العمل الواحد قد يكون تارة مستحبا وأخرى مكروها بحسب ما تقتضيه المصلحة (انظر الجموع 24/ 195)، بل وقعد شيخ الإسلام قاعدة عظيمة وهي: (لا ينبغي أن ينظر إلى غلظ المفسدة المقتضية للحظر إلا وينظر مع ذلك إلى الحاجة الموجبة للإذن).
قال شيخ الإسلام في المجموع (26: 181): فهذا أصل عظيم في هذه المسائل ونوعها: لا ينبغي أن ينظر إلى غلظ المفسدة المقتضية للحظر إلا وينظر مع ذلك إلى الحاجة الموجبة للإذن؛ بل الموجبة للاستحباب أو الإيجاب.
وكل ما يحرم معه الصلاة يجب معه عند الحاجة إذا لم تمكن الصلاة إلا كذلك، فإن الصلاة مع تلك الأمور أخف من ترك الصلاة، فلو صلى بتيمم مع قدرته على استعمال الماء لكانت الصلاة محرمة، ومع عجزه عن استعمال الماء كانت الصلاة بالتيمم واجبة بالوقت، وكذلك الصلاة عريانا وإلى غير القبلة ومع حصول النجاسة وبدون القراءة، وصلاة الفرض قاعدا أو بدون إكمال الركوع والسجود، وأمثال ذلك مما يحرم مع القدرة ويجب مع العجز.
وكذلك أكل الميتة والدم ولحم الخنزير: يحرم أكلها عند الغنى عنها، ويجب أكلها عند الضرورة عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء. قال مسروق: من اضطر فلم يأكل حتى مات دخل النار. وذلك لأنه أعان على قتل نفسه بترك ما يقدر عليه من الأكل المباح له في هذه الحال، فصار بمنزلة من قتل نفسه، بخلاف المجاهد بالنفس، ومن تكلم بحق عند سلطان جائر، فإن ذلك قتل مجاهدا، ففي قتله مصلحة لدين الله تعالى. أهـ
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن لهدي الظاهر ليس هو من أصول الدين بل من تكميلاته المرتبطة بقوة الدين وظهوره، وأنه (أي الهدي الظاهر) يخبو ويقوى بحسب ذلك.
¥