فالإسلام يأمر بالهمة في السلوك النافع المتقن ويمنحه مسحة ربانية، وعلى هذا فحياة المسلمين ينبغي أن تكون هي الرائدة في صناعة هذه الحياة، فإن الله تعالى قال (هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) ولا شك أن المسلمين هم أولى من يعمر هذه الأرض ويخرج خيراتها.
والمقصود هنا أن التغيير في الفهم القاصر للدين إلى الفهم الكامل أصل في النصر.
ومن التغيير الأساسي التابع لهذا التغيير هو التغيير الثقافي للمجتمع الإسلامي. ومعنى ذلك أن تكون الثقافة العامة ثقافة متوازنة، تجمع كل مقومات الحياة، فلا يمكن التركيز على جانب الثقافة الدينية، بل لابد من الثقافة في العلوم المادية والأخلاقية والأدبية وغيرها ضمن أصول الدين وحدوده. ولإيجاد هذه الثقافة المتوازنة لا بد من وجود مؤسسات تربوية وإعلامية متكاملة لكافة مراحل الدراسة تهيء وجودها في شخصية الفرد المسلم. وتتمثل هذه الثقافة بتهيئة المادة العلمية والعملية التفصيلية لأنواع العلوم بمستويات متناسبة مع المراحل العمرية والدراسية، (وفوق كل ذي علم عليم)، (وقل ربي زدني علما).
هذه الثقافة ستوجد مجتمعا حيا قادرا على البناء، سيكون هناك مهندس مبدع خلف الماكنة بدل مهندس إداري فاشل خلف المكتب، وسيكون هناك عامل يحرص على زيادة وحدات الإنتاج بدل إضاعة الوقت بشرب سيكارة في زاوية المعمل، وسيكون هناك طالب يحرص على عمل مشروع مبدع في عطلته، بدل التخطيط لقضاء العطلة في جبال سويسرا، أو قتل الوقت مع الشلة. وفي كل هذا تحقيق لقول الله تعالى (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) وتحقيق لقوله تعالى (خذوا ما آتيناكم بقوة)، وقوله تعالى (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور)، كما إنها تحقيق لقول الله عز وجل (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) وتحقيق لقوله صلى الله عليه وسلم (خير الناس من نفع الناس)، وتحقيق لقوله صلى الله عليه وسلم (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)
إن هذه الثقافة في الحقيقة هي الرابط العملي بين الفهم الصحيح للدين والممارسة الواقعية في الحياه. وبدون هذه الثقافة فإن المسلم وإن كان عارفا بالمعنى الصحيح من الدين فإنه سوف لا يكون فاعلا، وربما سيكون أيضا سلبيا في سلوكه وسوف يستاوى عمليا مع من لا يفهم الإسلام الفهم الصحيح لأنه لا يملك آليه التطبيق.
أما ما علاقة ما سبق من الفهم الصحيح والثقافة بالعنف، فأقول: أحسب أن سبب العنف هو اليأس الذي وقعت فيه الأمة في المواجهة المادية مع الغرب، فالغرب أعلم من المسلمين وأعرف باستعمار الأرض وتسخيرها، وهو أعلم منها بالهمة والجد، وهو أعرف منها بكل أصناف الثقافات، بل أعلم منها حتى بما عندها من الثروات والخيرات.
ولا شك إن حياة القرن الحادي والعشرين هي غير حياة القرن السابع أو القرون الأخرى، فالعلم والتكنولوجيا هي سمة هذا العصر ولا يمكن لأمة تحترم كيانها وتريد قيادة البشرية أن تعيش على هامشه، مع أمر الله تعالى بالقوة في أخذ الدين، ومع ما في القرآن من آيات العلم، وما في تأريخ المسلمين من الريادة والسيادة في قيادة البشرية فقد قصر المسلمون في استحصال أسباب القوة وأسباب الأحترام والمهابة حتى باتوا مطمعا لكل طامع كما قال صلى الله عليه وسلم (توشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلى لى قصعتها، قالوا أومن قلة نحن يا رسول الله، قال لا نتم يؤمئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل).
وإذا كان الضعف قد دب في الأمة من بعد قوة قرنا بعد قرن بسبب الغفلة وضعف الدين فأتبعت الذنب الذنب بدل أن تتبعه بالتوبة والحسنة فقد طبقت عليها سنة لله الكونية التي لا يفلت منها كافر أو مؤمن فمن جد وجد ومن زرع حصد، وأن الرزق لا يحصل بمجرد الدعاء، كما أن الولد لا يحصل كذلك بمجرد بالدعاء، وكذلك النصر لا يحصل بمجرد الدعاء، بل لا بد من العمل وإعداد العدة التي تتحقق بها القوة بالمقاييس المادية، وليس بمجرد الإعداد. ولهذا قال تعالى (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعا، فإن يكن منكم مئة صابرة يقتلوا مئتين، وإن يكن منكم ألف يقتلوا ألفين) فجعل مقياسا ماديا في الهزيمة والنصر مع الدين والإيمان، وكذلك في قوله تعالى في آية اعداد (ترهبون به عدو الله وعدوكم) جعل مقياسا ماديا للإعداد المطلوب، وليس مجرد الإعداد.
فمن كان ذا غيرة في حماية الإسلام والمسلمين فإنه ينبغي أن يخضع غيرته لمقاييس الشرع فيبني بدل أن يهدم ويهدي بدل أن يقتل ويصلح بدل أن يفسد، وإن قصد في ذلك غير ذلك.
وفوق ذلك كله فإن الدنيا عند أهل القرآن ليست هي المقياس، فإنهم إن خسروها بأي سبب كان، فإنهم لم يخسروا إلا شيئا تافها (وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع). أقول ذلك ليس تثبيطا في التمكن في الأرض بل ردا لليأس في الحصول على التكنولوجيا أو اللحاق بالغرب، وهو يأس فاسد شرعا وعقلا وعرفا وبكل المقاييس، وإذا منح الله تعالى هذه التكنولوجيا الكفار بهمتهم وعملهم ضمن سنته الكونية فأن يمنحها المؤمنين بهمتهم وعملهم وإيمانهم هو من باب أولى كما في آية العدد. المهم هو العمل ورد اليأس.
وختاما أقول العنف ليس حلا، بل هو يأس وخذلان.
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا إن لله لمع المحسنين.
أبو بكر البغدادي
¥