تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فعلى المسلم أداء ما يقدر عليه من الواجبات الشرعية، وأن الله تعالى لا يكلف النفس إلا وسعها. وأن الوسع أمر نسبي ظرفي متغير، وليس أمرا مطلقا. ومن الناس من يفسر الوسع في قوله تعالى (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) على أن جميع الواجبات الشرعية هي بوسع الإنسان فعلها، وأن الله تعالى ما كلف الناس بها إلا لعلمه أنهم قادرون عليها وأن من يعتذر لضعف فيه فإنه مخالف لأمر الله تعالى. ولا شك أن هذا باطل وأن من فهم الشريعة وأصولها علم بطلان ذلك، وأن شروط التكليف العلم والقدرة، وأن الحرج مرفوع (ما جعل عليكم في الدين من حرج)، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)، وغير ذلك مما تفصيله في غير هذا الموضع.

ولهذا لم يشرع الجهاد عند أهل السنة والجماعة إلا بأمر العلماء والأمراء عند القدرة عليه وذلك لتحقيق وحدة المسلمين فيه من جهة، وتحقيق المصلحة الشرعية فيه من جهة أخرى، فإن مصالح الدين لا يمكن أن تناط بالعوام إطلاقا، ولذا قال تعالى (ولو جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا). وإذا كان هناك من يقول أنه ليس في الأرض أمراء ولا علماء، فإنه على هذا الفرض الباطل يكون المطلوب السعي لإيجاد العلماء والأمراء وليس السعي للجهاد لأن الجهاد ليس غاية في نفسه بل هو وسيله لحفظ الدين، وأن السلم هو الأصل في الإسلام (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها).

ومما ينبغي إدراكه أن العلم والتكنولوجيا مطلبان شرعيان للسلم والحرب معا، ويدل على ذلك أن الله تعالى سخر للناس ما في السموات وما في الأرض كما سبق ذكره. ولا شك أن التسخير في الآيات لا يتحقق مقصده إلا بإرادة الإنسان وفعله، وليس بالعجز وفتور الهمة. ولذا قال تعالى (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه)، فأمر بالسعي في طلب الرزق. وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم (لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا)، فربط التوكل بالطلب والسعي.

ومع هذا التسخير الرباني للكون في خدمة الإنسان فقد أمر الله تعالى عباده بما ينفعهم منه في دنياهم، واحتج عليهم لعبادته بما أنزل عليهم من الخير مما فيه نفع لهم في حياتهم ومعاشهم (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)، (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون)، وقال تعالى (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله، كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال). وكذلك ذكر الله تعالى على سبيل المدح ما يعمله الإنسان في الدنيا من الصناعات فقال (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات، اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور). وغير ذلك من الآيات التي تذكر النعم والآلاء التي من الله على عباده في حياتهم ومعاشهم مما يلزمهم بشكره وعبادته. فدل ذلك على أن فعل ما ينفع في الدنيا أمر مرغوب مطلوب شرعا.

وأختم هذا المقال، بجامع ذلك كله وخلاصته، ألا وهو الجانب التربوي في حياة الأمة، فإنه الأصل في تحويل المعاني الصحيحة إلى معاني ملموسة وواقع حي له صورة وصوت وحياة. إنه في الواقع المصنع الحقيقي للحياة، كما قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)، فقوله تعالى (استجيبوا) أمر بتحويل المعاني الذهنية إلى حياة واقعية، وأن الامتناع عن الاستجابة لتلك المعاني الربانية هو الموت الحقيقي.

وما من شك إن تحقيق الجانب التربوي هو من مهمات الأمة على كل منازلها، من الرؤساء والمرؤوسين، وربما كانت مهمة من بيديهم الأمور أعظم. ومن أهم الجوانب التي تساهم في تحقيق التربية الصحيحة تعليم النشئ وتربيتهم على الصدق وعلو الهمة والجد والعمل والإبداع والتنافس في الخيرات، وتضمين ذلك في المناهج التعليمية.

وربما كان من أهم ما يركز المعاني الصحيحة في النفس هو:

• تحبيب تلك المعاني للنفوس عن طريق التشجيع والمكافئة والتحفيز.

• تهيئة الظروف للتطبيق العملي والميداني.

• تحجيم ما يثبط الهمة عن تلك المعاني من وسائل اللهو والترف والتلسية.

• تحوير وسائل التسلية لتصبح تسلية ثقافية علمية هادفة.

• تضمين فترات التعطيل مشاريع علمية تطبيقية.

إن الهمة والجد في حياة المسلم من أبرز ما يميز الشخصية الإسلامية، ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها الحارث والهمام)، وقوله صلى الله عليه وسلم (رحم الله امرأ عمل علما فأتقنه)، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم (لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد).

إن نصر الله تعالى لا يأتي حتى ننصر أنفسنا بمعاني الإسلام التي بها وحدها ننصر الله فنرى نصره.

(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين).

وكتبه أبو بكر البغدادي

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير