ـ[أبو بكر البغدادي]ــــــــ[24 - 01 - 06, 09:59 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
سلامة المنهج
لما كانت العبادة هي الغاية التي خلق الله تعالى لها العباد، فشرعها لهم وأمرهم بها، فإن تحقيقها الذي يريده سبحانه تعالى لا يتم إلا بتحقيق لوازمها الشرعية، التي يمكن حصرها إجمالا في أصلين متلازمين:
الأول: إخلاص القصد في فعلها، والثاني: صواب المنهج في أدائها.
قال تعالى (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا، ولا يشرك بعبادة ربه أحدا)، قال القاضي عياض: العمل الصالح لا يتقبل حتى يكون أخلصه، وأصوبه. فسئل ما أخلصه وما أصوبه، فقال: أخلصه لله وأصوبه على السنة.
وإذا تركنا الحديث عن الأعذار الشرعية وموانع المؤاخذة المعتبرة شرعا فيمن لم يأت بالعمل الصالح على هيئته الشرعية، مع إخلاص قصده، فإن الحديث عن وجوب الدعوة إلى التزام أحكام الشرع الصحيح الذي شرعه الله تعالى ورسوله إيجابا أو استحبابا ورفع الموانع والأعذار يعد أصلا شرعيا لازما لكل داعية إلى الله، لا يمكن تأجليه أو الفتور عنه، وإن كانت هناك اعتبارات وعوارض شرعية يتعرض لها أعيان من المسلمين، قد توجب الإمساك لحين زوال المانع.
ومما لا شك فيه أن إخلاص القصد هو من أعظم أسباب الصلاح والفلاح، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب). وقال صلى الله عليه وسلم: (التقوى هاهنا، التقوى هاهنا)، وأشار إلى صدره صلى الله عليه وسلم. ومما لا شك فيه أيضا أن هذه النصوص الشرعية وما في معناها تتضمن الأصلين معا، وإن اقتصرت في النص على الأول، ذلك لأن إخلاص القصد هو القاعدة التي ينطلق منها المؤمن في بناء دينه الذي هو عصمة أمره، كما أنه القاعدة التي ينطلق منها المتنافسون في طاعة الله تعالى بعمل الصالحات، كما قال تعالى (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)، فيحصل بذلك صلاحهم. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك إشارة واضحة في حديث المضغة بقوله (إذا صلحت صلح الجسد كله)، فإخلاص القصد سبب إلى صلاح الجوارح بلا ريب.
إن إخلاص القصد وصواب المنهج أصلان لا ينفكان، فمن ادعى الإخلاص لزمه العمل وبالتالي لزمه العلم بالأمر والنهي. ومن احتج بإخلاص القصد على ترك العمل أو ترك هيئته الشرعية، فإن هذا يكون قد تناقض فترك لازم الإخلاص، وهذا الكلام مبني على أساس ظهور الحق للمقابل. وكذلك يقال هنا: إذا كان الإخلاص لا يستلزم المعرفة بالأمر والنهي لزم من ذلك تعطيل الدين بالكلية، بل ما كانت هناك حاجة إلى إرسال الرسل، ولا إلى العلم، بل حتى المشركون يزعمون أنهم مخلصون في مقصودهم فهم إنما يتخذون الوسائط لتوصلهم إلى الله خالقهم ورازقهم، كما قال تعالى عن المشركين (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى).
والمقصود هنا الكلام على وجوب الدعوة إلى سلامة المنهج، وما يلزم ذلك من المعرفة بتفاصيل الدين أصولا وجزئيات، كما قال تعالى (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعن، وسبحان الله وما أنا من المشركين). ولا شك أن من أصول هذه الدعوة: الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، والتدرج وغير ذلك من الضوابط الشرعية التي ينبغي مراعاتها، كما تم بسطه في غير هذا الموضع.
ولأن العلم هو الأصل في حفظ الشرع المنزل، والجهل هو الأصل في ضياعه، كانت أعظم مهمات الرسل تعليم الناس دينهم الحق بعد فترة من الجهل الذي أفسد علم الرسل قبلهم.
قال تعالى (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين).
وقال تعالى (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين).
وقال (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون).
ولذلك أيضا كان العلم، بعد البلاغ المبين وإقامة الحجة والمحجة، هو الذي يفصل بين الناس ويفرقهم صفين: مؤمنين وكفارا، مهتدين وضلالا، أبرارا وفجارا، متبعين ومبتدعين، بحسب ما امتحنوا فيه وابتلوا.
¥