ـ[أبو بكر البغدادي]ــــــــ[27 - 01 - 06, 09:58 م]ـ
مع حديث الآحاد
أبو بكر البغدادي
إن من أخطر الأسباب التي ساهمت وتساهم في فرقة الصف المسلم الذي يحبه الباري عز وجل (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص)، هو الغبش في تقدير القيمة الشرعية للإشكالات المنهجية المطروحة في الساحة، وبالتالي إيجاد صراعات غير مبررة إلا من جهة الجهل بأصول المنهج الشرعي.
وحديث الآحاد هو أحد أهم تلك الإشكالات المنهجية المطروحة، والتي ساهمت إلى حد بعيد في تعميق الخلاف بين الأمة من جهة ثم في تأصيل سلب القدسية من النصوص الشرعية، وبالتالي تأصيل الجهل السائد في الأمة، وزيادة الفرقة وتأكيد الضعف.
ولتوضيح هذا الإشكال نفصله على نقاط:
1 - موضع النزاع يدور حول حديث الآحاد الذي هو صحيح سندا ومتنا، أي لا علة له من حيث اتصال سنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شبهة في عدالة رواته؛ مع خلوه من الشذوذ، والعلل المعتبرة عند العلماء.
2 - وكذلك فإن موضع النزاع لا يدور حول حديث الآحاد الذي اختلف علماء السلف رضوان الله تعالى عليهم في الحكم عليه باعتبارات التعارض عندهم.
3 - إن مفهوم الظني عند العلماء، في تقسيمهم للنصوص إلى ظنية وقطعية ثبوتا ودلالة، إنما هو الظن الراجح.
4 - إن العوام والخواص من الصحابة إلى التابعين إلى أتباعهم لم يكونوا يفرقون بين الظني والقطعي من حيث الإيمان علما وعملا. ودليل ذلك إن كل الرواة في هذه العصور على اختلاف مراتبهم نقلوا عشرات الالاف من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في كل المسائل، أصولا كانت أم فروعا، اعتقادا أو عملا، دون أن يشيروا أدنى إشارة إلى التفريق في الإيمان والعلم بين ما هو من الأصول أو الفروع أو الاعتقاد أو العمل؛ بل ما كانوا ينقلون تلك النصوص إلا على سبيل حفظ الدين والبلاغ الذي أمر به الله تعالى ورسوله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرؤا سمع مقالتي فوعاها، فبلغها إلى من لم يسمعها، فرب مبلَّغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه).
5 - من يذهب إلى أن ما يفيد العلم والاعتقاد من النصوص يجب أن يكون متواترا، فإن مفهوم المتواتر عنده وعند غيره هو رواية الجمع الغفير الذين لا يمكن تواطئهم على الكذب عن مثلهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومفهوم حديث الآحاد الذي لا يفيد علما أو اعتقادا عنده هو ما لم يبلغ حد التواتر هذا. وعلى هذا فإن أكثر النصوص النبوية هي من الآحاد الذي لا يفيد علما ولا اعتقادا.
6 - إن معرفة كون النص النبوي هو من الآحاد أو المتواتر أمر يكاد يكون مستحيلا في عصر التابعين وأتباعهم، لأن النصوص كانت لا تزال تروى وتجمع ومن المستحيل معرفة عددها لعامة الرواة، فالراوي الذي يروي الرواية في البصرة لا يعرف الرواية التي في الكوفة ولا التي في بغداد، ولا التي في المدينة المنورة، ولا التي في خراسان، أو التي في الري.
7 - بناءا على أصلهم المذكور في النقطة (4)، فإن كل التابعين وأتباعهم، كان عليهم الانتظار فترات وعصورا أخرى حتى يتم استكمال معرفة النصوص المتواترة من غيرها قبل العلم والاعتقاد بدلالة معظم النصوص التي تبين فيما بعد أنها متواترة. ولما ثبت أن ذلك منتف في حقهم، ثبت أنهم كانوا يؤمنون بالنصوص الصحيحة السالمة من المعارض من دون هذا التفصيل الفاسد.
8 - من أين للعوام في عصرنا وقبله من العصور معرفة كون الحديث المعين متواترا فيلزمهم اعتقاده، أو غير متواتر فلا يلزمهم، إلا من حيث التقليد لمن يقول لهم ذلك، وهذا (أي التقليد) أضعف في إفادة العلم من حديث الآحاد بلا ريب.
9 - إن كون النص يفيد العلم في وقت ما عند شخص ما، لا يعني أنه لا يمكن أن لا يفيده بعد أن يتبين المعارض الراجح، ولا يقدح هذا في علمه واعتقاده قبل تبينه له. وهذا واضح فإن كثيرا من النصوص التي كان السلف الصالح يروونها معتقدين صحتها ووجوب اتباعها علما واعتقادا وعملا، عدلوا عن ذلك بعد ما تبين المعارض الراجح من ضعف الحديث مثلا، أو ثبوت حديث معارض له أرجح منه. وإذا ربطنا هذه النقطة بالتي بالنقطة (7) تجلى لنا ذلك أكثر.
¥