هذه أقوال بعض أهل العلم في قصة أبي طالب، ولعل الأقرب أن تكون خاصة به، وعلى كل الأحوال فإن مما لا خلاف فيه أن الذين يعملون السيئات من أهل الإصرار على المعاصي حتى إذا حضر أحدهم الموت، وحشرج بنفسه، وعاين الملائكة قد أقبلوا عليه لقبض روحه، وقد غلب على نفسه، وحيل بينه وبين فهمه بشغله بكرب حشرجته وغرغرته قال: {إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} فليس لهذا عند الله تبارك وتعالى توبة؛ لأنه قال ما قال في غير حال توبة2.
فإن قيل: هل تصح توبة من حكم عليه بالقتل، أو حضر في مكان يحترق أو كان في طائرة حدث فيها خلل وبدأت تهوي إلى الأرض، ونحو هذه الحالات.
فإنه يقال: نعم تصح توبة هؤلاء؛ لأنهم ربما ينجون من الموت، فمن هوت به الطائرة، أو كان في بيت يحترق، فربما ينجو، وكذلك من حكم عليه بالقتل فربما يرفع القتل عنه3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ
1 انظر القول المفيد على كتاب التوحيد 1/ 354.
2 انظر جامع البيان في تفسير القرآن 4/ 205، 206.
3 انظر فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين 2/ 990.
المبحث الخامس: سؤال الرجعة إلى الدنيا عند الاحتضار
الكافرون والمفرّطون في أمر الله تعالى يسألون الله عز وجل حال الاحتضار الرجعة إلى الحياة الدنيا؛ ليصلحوا ما كان أفسدوه في مدة حياتهم، قال تعالى عنهم: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} 1.
فالكافرون يسألون الرجعة عند الاحتضار؛ ليسلموا، والعصاة ليتوبوا ويعملوا صالحاً، فلا يجابون إلى ذلك، كما قال تعالى {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} و {كَلَّا} حرف ردع وزجر، أي لا نجيبه إلى ما طلب ولا نقبل منه، وقوله {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} أي لابد أن يقولها لا محالة كل محتضر ظالم، ولو رُدّ لما عمل صالحاً ولكن يكذب في مقالته.
يقول الطبري في تفسيره للآية السابقة: “يقول تعالى ذكره حتى إذا جاء أحد هؤلاء المشركين الموت، وعاين نزول أمر الله به، قال لعظيم ما يعاين، مما يقدم عليه من عذاب الله تندماً على ما فات، وتلهفاً على ما فرط فيه قبل ذلك من طاعة الله ومسألته للإقالة: {رَبِّ ارْجِعُونِ} إلى الدنيا فرّدوني إليها، {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً}، يقول: كي أعمل صالحاً {فِيمَا تَرَكْتُ} قبل اليوم، من العمل، فضيّعته، وفرطت فيه”2.
ويقول السعدي: “يخبر تعالى عن حال من حضره الموت من المفرطين الظالمين أنه يندم في تلك الحال، إذا رأى مآله، وشاهد قبح أعماله، فيطلب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ
1 سورة (المؤمنون)، الآيتان 99 وَ 100.
2 جامع البيان في تفسير القرآن 18/ 40.
الرجعة إلى الدنيا، لا للتمتع بلذاتها واقتطاف شهواتها، وإنما ذلك ليقول:
{لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} من العمل، وفرطت في جنب الله، {كَلَّا}
أي: لا رجعة له ولا إمهال، قد قضى الله أنهم إليها لا يرجعون {إِنَّهَا} أي: مقالته التي تمنى فيها الرجوع إلى الدنيا {كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} أي مجرد قول اللسان لا يفيد صاحبه إلا الحسرة والندم، وهو أيضاً غير صادق في ذلك؛ فإنه لو رُدّ لعاد لما نُهِي عنه”1.
ويدل على سؤال الرجعة وتمنيها حين الاحتضار قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ. وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} 2.
¥