ثم بتقدير تَيِقُّن اللقاء، يُشتَرَطُ أن لا يكون الراوي عن شيخِهِ مُدَلَساً، فإن لم يكن حملناه على الاتصال، فإن كان مُدَلّساً، فالأظهِرُ أنه لا يحمَلُ على السماع.
ثم إن كان المدلَسُ عن شيخِه ذا تدليسٍ عن الثقات فلا بأس، وإن
كان ذا تدليسٍ عن الضعفاءِ فمردود.
فإذا قال الوليد أو بَقِيَّة: عن الأوزاعي، فواهٍ، فإنَّهما يُدلَّسانِ كثيراً عن الهَلْكَى، ولهذا يَتَّقي أصحابُ (الصحاح) حديثَ الوليد، فما جاء إسنادُه بِصِيغةِ عن ابن جُرَيج، أو عن الأوزاعي تجنَّبوه.
وهذا في زماننا يَعْسُرُ نقدُه على المحدِّث، فإنِّ أولئك الأئمة كالبخاري وأبي حاتم وأبي داود، عايَنُوا الأصول، وعَرَفوا عِلَلَها، وأمَّا نحن فطالَتْ علينا الأسانيدُ، وفُقِدَتْ العباراتُ المتيقَّنَة، وبمثلِ هذا ونحوِه دَخَل الدَّخلُ على الحاكم في تَصَرَُفِهِ في ((المستدرك)).
18ـــ المُدَلَّس:
ما رواه الرجل عن آخَر ولم يَسمعه منه، أو لم يُدركه.
فإن صَرَّح بالاتصال وقال: حدَّثنا، فهذا كذَّاب، وإن قال: عن، احتُمِلَ ذلك، ونُظِرَ في طبقِتِه هل يُدرِكُ من هو فوقَهُ؟ فإن كان لَقِيَه فقد قرَّرناه، وإن لم يكن لَقِيَه فأمكن أن يكون مُعاصِرَه، فهو محلُّ تردُّد، وإن لم يُمكِن فمنقطِع، كقتادة عن أبي هريرة.
وحُكْمُ (قال): حُكمُ (عن). ولهم في ذلك أغراض:
فإن كان لو صَرّحَ بمن حَدَّثه عن المسمىَ، لعُرِفَ ضَعْفُه، فهذا غَرَضّ مذموم وجِنايةُ على السُّنُّة، ومن يُعاني ذلك جُرِحَ به، فإنَّ الدينَ النصيحة.
وإن فَعَلهُ طَلَباً للعلو فقط، أو إيهاماً بتكثير الشيوخ، بأن يُسمَي الشيخَ مرَّةً ويُكَنَّيه أخرى، وَيَنْسُبَه إلى صَنْعةٍ أو بلدٍ لا يكادُ يُعرَف به، وأمثالَ ذلك، كما تقولُ: حدَّثَنا البُخَاريُّ، وتَقصِدُ به من يُبَخَّرُ الناس، أو: حدَّثنا عليُّ بما وراءَ النهر، وتعني به نهراً، أو حَدَّثنا بزَبِيد، وتُرِيد موضعاً بقُوص، أو: حدَّثنا بحَرَّان، وتُريدُ قريةَ المَرْج، فهذا مُحْتَمَل، والوَرَعُ تركُه.
ومن أمثلة التدليس: الحَسَنُ عن أبي هريرة. وجمهورُهم على أنه منقطع، لم يَلْقَه. وقد رُوِيَ عن الحَسَنِ قال: حدَّثنا أبو هريرة. فقيل: عَنَى بحَدَّثَنا: أهلَ بلدِه.
وقد يؤدَّي تدليسُ الأسماء إلى جهالةِ الراوي الثقة، فيُرَدُّ خبَرُه
الصحيح. فهذه مَفْسَدَة، ولكنها في غير ((جامع البخاري)) ونحوِه، الذي تَقرَّرَ أنَّ موضوعَه للصحاح، فإنَّ الرجلَ قد قال في ((جامعه)): حدَّثنا عبدُالله. وأراد به: ابنَ صالح المصري. وقال: حدَّثنا يعقوب. وأراد به: ابنَ كاسِب. وفيهما لِين. وبكل حالٍ: التدليسُ منافٍ للإخلاص، لما فيه من التزيُّن.
19ـــ المضطرب والمُعَلَّل:
ما رُوي على أوجهٍ مختلِفة، فَيعتلُّ الحديث.
فإن كانت العِلّةُ غيرَ مؤثًرة، بأن يَرويَه الثَّبْتُ على وجهٍ، ويُخالِفَه واهٍ، فليس بمَعْلُول. وقد ساق الدارقطنيُّ كثيراً من هذا النمط في ((كتاب العِلَل))، فلم يُصِب، لأنَّ الحُكم للثَّبْت.
فإن كان الثَّبْتُ أرسَلَه مثلاً، والواهي وصَلَه، فلا عبرة بوصلِه لأمرين: لضعفِ راويه، ولأنه معلولّ بإرسال الثَّبْت له.
ثم اعلم أنَّ أكثَرَ المتكلَّمِ فيهم، ما ضعَّفهم الحُفَّاظُ إلا لمخالفتهم للأثبات.
وإن كان الحديثُ قد رَوَاه الثَّبْتُ بإسناد، أو وَقَفَه، أو أَرسَلَه، ورفقاؤه الأثباتُ يُخالفونه، فالعبِرةُ بما اجتَمَع عليه الثقات، فإنَّ الواحد قد يَغلَط. وهنا قد ترجَّع ظهورُ غَلَطِه فلا تعليل، والعِبرةُ بالجماعة.
وإن تساوَى العَدَدُ، واختَلَف الحافظانِ، ولم يترجَّح الحكمُ لأحِدهما على الآخر، فهذا الضَّرْبُ يَسوقُ البخاريُّ ومسلمُ الوجهين ِ ـ منه ـ في كتابيهما. وبالأولَى سَوْقُهما لما اختَلَفا في لفظِهِ إذا أمكن
جَمْعُ معناه.
ومن أمثلة اختلاف الحافِظَينِ: أن يُسمَيَ أحدُهما في الإسناد ثقةً، ويُبدِله الآخرُ بثقةٍ آخر أو يقولَ أحدُهما: عن رجل، ويقولَ الآخرُ: عن فلان، فيُسميَّ ذلك المبهَمَ، فهذا لا يَضُرُّ في الصحة.
¥