تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [(الشورى: 7) وانتهى الأمد بعد الذي ضربه الله على

لسان رسله للعمل وقبول التوبة، وقد رأينا في هذا أن الدواء ينفع وقتًا محدودًا، فإن

فات ذلك الوقت واستحكم الداء فلا ينفع الدواء.

وأما الخامس: وهو أهمها، فسنبين بعون الله تعالى من وجوه الحكمة في

دوام عذاب الكفار وعدم فنائها ما يكون ناقضًا للأساس الذي بنى عليه ابن القيم تلك

العلالي من مخالفة دوام العذاب للحكمة، فنقول: أما حكمة النهي عن الشرور

والوعيد عليها؛ أي: وعيد الكفار بتأبيد العذاب وغيرهم بالعذاب المؤقت فهي إرادة

تقليل وقوعها حتى لا يفسد الكون ويتم له ما قدر من الأجل، ونحن نرى المؤمن

المصدق بوعيد الله ورسوله تصده الشهوات والشياطين عن الانزجار بالوعيد مهما

بلغ من الشدة والصرامة؛ اغترارًا بكون العذاب مهما طال ينقطع، فكيف بالكافر

المكذب بالوعيد إذا كان العذاب الذي توعد به منتهيًا؟ أفيصح أن يكون توعدهم به

زاجرًا لهم عن كفرهم كزجر الوعيد بالعذاب الدائم؟ أفيبعد أن يكون العليم الحكيم قد

علم أنه لو لم يجعل عذابهم دائمًا لما آمن من الناس من يكون إيمانهم مانعًا من

مصير الكون إلى الخراب والفساد قبل انتهاء الأجل المقدر له؟ ثم في دوام عذاب

الكفار دوام ظهور آثار طائفة من أسمائه تعالى كالقهار والمنتقم، كما أن في بقاء

نعيم المؤمنين بقاء آثار جملة أخرى منها كالجواد والكريم، ومعلوم أن جميع

مدلولات أسمائه تعالى صفات كمال يجب بقاؤها له، وفناء النار وأهلها ينافي ذلك،

ولا جائز أن يقال: يمكن أن يخلق بعد هذا الفناء خلق يكلفون، فيعاقب المخالف

منهم، فيكون مظهر أسماء القهر؛ لأن هذا لم يقل به أحد ولم يدل عليه دليل [4]. ثم

من المعروف المألوف أن الإنسان بعد طول النعيم عليه يصير نعيمه كأحد العادات،

ليس فيه كبير لذة، وإذا كان مسبوقًا بآلام نسيت الآلام بتتابع النعيم، فلو فنيت النار

وأهلها لخفت لذة أهل الجنة وقلت قيمة نعيمهم في نظرهم بعد طول العهد، فكان في

دوام تعذيب الكفار الذي استحقوه بكفرهم الذي لا حد لخبثه بعد إقامة الحجج وإزاحة

الأعذار دوامًا عظيمًا اغتباط المؤمنين بنعيمهم، واستمرار كمال شكرهم لربهم ومعلوم

أن المؤمنين أكثر جدًّا من الكافرين؛ إذ منهم الملائكة الذين لا يحيط بعشر معشار

عشرهم إلا خالقهم جل وعلا، وقد تقرر في العقول أن إيجاد الشر القليل لأجل الخير

الكثير خير، وقد اعترف هو (ابن القيم) بنحو ذلك فظهر أن لدوام عذاب الكفار عدة

حكم:

1 - جعل العقاب بحيث يترتب على العلم به غايته التي أريد لأجلها من منع

انتشار الكفر إلى حد يفسد الكون قبل أجله المسمى.

2 - جعل العقاب مناسبًا للجريمة في عدم التناهي؛ لما علم من أن خبث الكفر

لا حد له.

3 - دوام ظهور آثار الأسماء الإلهية التي بها تتحقق الألوهية.

4 - دوام ابتهاج المنعمين بنعيمهم بالمقايسة بينه وبين ما فيه المعذبون،

وقد يشير إلى هذا قوله تعالى:] وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ

أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً * وَأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً [

(الإسراء: 9 - 10)، فأدخل إعداد العذاب الأليم لغير المؤمنين في بشارة

المؤمنين، وما هذا إلا لأنه يعظم اغتباطهم بنعيمهم بالمقايسة بينه وبين عذاب

أعدائهم. هذا، وبقي أن بعض القاصرين يقول: إذا كان المخلوق لا يسمح ببقاء

عدوه في العذاب الصارم الطويل مهما بلغت عداوته له، وإن سمح عُدَّ غليظ القلب،

فكيف يسمح أرحم الراحمين بدوام العذاب البالغ غاية الصرامة؟ فنقول: هذا قياس

للغائب على الشاهد، وهو فاسد، فإن المخلوق يتألم قلبه برؤيته المعاقب، فإذا سعى

في إزالة عقابه كان ذلك بالحقيقة سعيًا في إزالة الألم عن نفسه، والله تعالى متنزه

عن القلب والانفعالات كما لا يخفى، وبقي أيضًا أن ما ينقل عن بعض السلف وما

يذكر في بعض كتب الصوفية بعدم الخلود في النار، فذلك محمول قطعًا على عدم

خلود عصاة المؤمنين الموحدين في النار، ومتى كان الكلام محتملاً تعين حمله على

ما لا يعارض القطعيات، هذا ما عنَّ لي ذكره في هذا الموضوع الخطير مؤملاً

تحقيق الحق فيه، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير