ومن العجيب أن كتبهم المقدسة عندهم لم تلق عناية مثلما لقيه القرآن والسنة فانبثق منهما علوم كثيرة، ومع ذلك كله لم يكن ذلك داعيًا لمن كان له عقل منهم إلى أن يتساءل؛ أفي الدنيا علوم نمت وتكاثرت وانبثقت بسبب مصدرين فكانت الكتب التي تتعلق بهما بحيث لا يمكن حصرها؟!
والمستشرقون في دراساتهم على طبقات:
الأولى: المنصفون الذين يبحثون عن المعلومة من حيث هي معلومة، ويفرح بها، ويدافع عنها، وما قد يصدر منه من نقد لشيء من علوم الإسلام فإنه ـ من حيث التفسير ـ ينتقد معلومة لا يرى عصمتها، وليس في قاموسه أنها كذلك.
الثانية: المغرضون الذين دخلوا إلى التراث الإسلامي بأحقادهم وأرادوا النيل من الإسلام بطريقة دراسته ونقده، وقد كان جيل من التوراتيين من يهود وغيرهم من المنصرين قد دخلوا في هذا العمل، فاتَّسمت بحوثهم بالنيل المغرض من الإسلام، وعدم الإنصاف، وإزدراء جملة من البحوث المعاصرة الجادة الناقدة، وطمرها وعدم ذكرها في كتبهم ومحافلهم.
الثالثة: جمع من الباحثين في الاستشراق الذين استغلهم التوراتيون، فصار همُّهم إثبات صحة ما في التوراة من تاريخ وأخبار ولغات، وهؤلاء يخرجون عن حدِّ الإنصاف إلى الحيف والجور، وإلى إثبات ما لا يمكن إثباته باسم البحث العلمي.
وبعد، فلا بدَّ من دراسات جادَّة في البحوث الاستشراقية ونقدِها وبيان ما فيها من عوار وخلل، وأن لا تُترك هذه الدراسات يتلقَّفُها جَهَلَةٌ بالتراث، فتقع منهم موقع الاستحسان، ثمَّ يتبنونها ويدافعون عنها كما هو الحال في بعض من مضى من أعلام الفكر العربي، ولا زال موجودًا في آخرين منهم. والملاحظات على الاستشراق أكثر من أن تُحصر في مقالة، لكني أرشد إلى قراءة نقد الأستاذ المحقق محمود شاكر في مقدمته لكتابه (المتنبي)، فقد نقد ظاهرة الاستشراق نقدًا جيداً.
وأختم بنقل للدكتور علي فهمي خُشيم في مقدمته لكتابه (آلهة مصر العربية1: 7ـ9) ففيها فوائد تعلق بموضوع دراسة المستشرقين لتراثنا، قال: ((الحقيقة التي لا ينبغي أن تنكر هي أن الغرب الأوروبيين هم الذين كشفوا أسرار الكتابة المصرية القديمة (الهيروغليفية) على يد الفرنسي (شامبليون) والإنجليزي (يونغ) في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وكذلك رموز الكتابة الهيراطيقية (الكهنوتية) والديموطيقية (الشعبية).
وتوالت الدراسات والبحوث المتواصلة في مختلف المجالات المتعلقة بآثار مصر وتاريخها ولغتها. وقد ساعدت سيطرة الاستعمار الغربي على مصر وبقية أقطار الوطن العربي أعدادًا لا تُحصى من علمائه وباحثيه على مزيد من الكشف عن الآثار المصرية في مختلف صورها وأشكالها، ويسرت لهم الانفراد بدراسة الحضارة المصرية القديمة انفرادًا يكاد يكون كاملاً، ولا يمكن حصر ما كُتب عن مصر القديمة من مؤلفات في شتى اللغات الأوروبية، ولا ما سطر من بحوث ودراسات، أو صدر من دوريات، أو عُقد من ندوات ومؤتمرات واجتماعات ومناقشات، فهذا بحر زاخر لا يبلغ أحد مداه، وليس لأمواجه حد ولا غاية، ولم ينته البحث في هذا المجال، ويبدو أنه لن ينتهي أبدًا.
وإذا كان من العدل أن نشكر لعلماء أوروبا جهدهم، ونحمد لهم صبرهم، ونشيد بكثير مما قدموه، ونكبر حماسة العديد منهم، بل وعشقهم لتاريخ مصر وحضارتها، فإن الصواب ملاحظة أن استحواذهم على التاريخ وسيطرتهم على ميادين البحث فيه أدَّى إلى نتائج بالغة الخطر؛ منها:
أولاً: أن الكتابة في هذا الميدان كانت في الأعم الأغلب باللغات الأوروبية مما حصر معرفته في أهل تلك اللغات أو في من يحسن لغة منها غير لغته هو،و كان أشد الضرر وقع على العرب، أو لنقل: على عامة القارئين بالعربية وحدها، فإذا ما صدر كتاب أو دراسة بالعربية في الموضوع كانت الترجمة واضحة، والنقل جليًّا عن المصادر الأوروبية.
ولقد بلغ من سيطرة اللغات الأوروبية على البحث في تاريخ مصر وحضارتها حد أن المجلة الرسمية التي تصدر عن هيئة الآثار المصرية في القاهرة تنشر البحوث فيها باللغات الأوروبية، وبأقلام دارسين عرب، حتى يومنا هذا. وقد اعتبر تقديم ملخص قصير بالعربية لبعض ما يُنشر من دراسات في هذه المجلة = ثورة جديرة بالتقدير والإعجاب.
¥