تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

قَالَ رَحِمَهُ اللُه (وَلَا يَتَمَكَّنْ الْمُفْتِي وَلَا الحَاكِمُ مِنَ الفَتْوَى وَالحُكْمِ بِالْحَقِّ إِلَّا بِنَوْعَيْنِ مِنَ الفَهْمِ، أَحَدُهُمَا: فَهْمُ الوَاقِعِ وَالْفِقْهُ فِيهِ، وَاسْتِنْبَاطُ عِلْمِ حَقِيقَةِ مَا وَقَعَ بِالقَرَائِنِ وَالأَمَارَاتِ وَالعَلَامَاتِ، حَتَى يُحِيطَ بِهِ عِلْمًا. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: فَهْمُ الْوَاجِبِ فِي الْوَاقِعِ، وَهُوَ فَهْمُ حُكْمِ اللهِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ فِي هَذَا الْوَاقِعِ، ثُمَّ يُطَبِقُ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَمَنْ بَذَلَ جُهْدَهُ وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي ذَلِكَ لَمْ يُعْدَمْ أَجْرَيْنِ أَوْ أَجْرًا، فَالْعَالِمُ مَنْ يَتَوَصَّلُ بِمَعْرِفَةِ الْوَاقِعِ وَالتَّفَقُّهِ فِيهِ إِلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ).

وَلَسْتُ أُشَبِّهُ حَاجَةَ فِقْهِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْخَبِيرِ بِأَمْرِ الْوَاقِعِ وَدَقَائِقِ الْحَيَاةِ الْيَوْمِيَّةِ الدَّعَوِيَةِ وَالْعَامَةُ إِلَّا بِمَا قَالَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي وُجُوبِ الْخِبْرَةِ الزِّرَاعِيَةِ لِمَنْ يُفْتِي مِنَ الفُقَهَاءِ فِي قَضَايَا الزُّرُوعِ بَفَتَاوَى رُبَّمَا تَجْلِبُ الضَّرَرَ وَالمْشَقَّةَ عَلَى الزَّارِعِ نَفْسِهِ، وَعَلَى الْمُتَعَامِلِينَ مَعَهُ، وَبِخَاصَةٍ فِي بَيْعِ الْمُغَيَّبَاتِ فِي الْأَرْضِ كَالْبَصَلِ وَالْجَزَرِ.

قَالَ مُسْتَنْكِرًا قَوْلًا لِبَعْضِ مَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُمْ مِنَ المْاَنِعِينَ ذَلِكَ بِحُجَّةِ أنَّه غَرَرٌ وَمَجْهُولٌ: ( ... فَالْمُفْتُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ لَوْ بُلُوا بِذَلِكَ فِي حُقُولِهِمْ أَوْ مَا هُوَ وَقْفٌ عَلَيْهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَمْ يُمْكِنْهُمْ إِلَّا بَيْعُهُ فِي الْأَرْضِ وَلَابُدَّ، أَوْ إِتْلَافُهُ وَعَدَمُ الانْتِفَاعِ بِهِ، وَقَوْلُ القَائِلِ: إنَّ هَذَا غَرَرٌ وَمَجْهُولٌ. فَهَذَا لَيْسَ حَظُّ الْفَقِيهِ وَلَا هُوَ مِنْ شَأْنِهِ، وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِذَلِكَ، فَإِنْ عَدُّوهُ قِمَارًا أَوْ غَرَرًا فَهُمْ أَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا حَظُّ الْفَقِيهِ يَحِلُّ كَذَا لِأَنَّ اللهَ أَبَاحَهُ، وَيَحْرُمْ كَذَا لِأَنَّ اللَه حَرَّمَهُ، وَقَالَ اللهُ وَقَالَ رَسُولُهُ وَقَالَ الصَّحَابَةُ، وَأَمَّا أَنْ يَرَى هَذَا خَطَرًا وَقِمَارًا أَوْ غَرَرًا فَلَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ، بَلْ أَرْبَابُهُ أَخْبَرُ بِهَذَا مِنْهُ، وَالْمَرْجِعُ إِلَيْهِمْ فِيهِ، كَمَا يُرْجَعُ إِلَيْهِمْ فِي كَوْنِ هَذَا الْوَصْفِ عَيْبًا أَمْ لَا، وَكَوْنُ هَذَا الْبَيْعِ مُرْبِحًا أَمْ لَا، وَكَوْنُ هَذِهِ السِّلْعَةِ نَافِقَةً فِي وَقْتِ كَذَا وَبَلَدِ كَذَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْصَافِ الْحِسِيَّةِ وَالْأُمُورِ الْعُرْفِيَةِ ... ).

أَقُولُ فَالْمُمَارِسُ لِفِقْهِ الدَّعْوَةِ إنَّمَا هُوَ فَقِيهٌ وَدَاعِيَةٌ مَعًا، وَلَا يَصْلُحُ لِلْخَوْضِ فِيهِ مَنْ لَيْسَتْ عِنْدَهُ خِبْرَةُ الدُّعَاةِ، وَلَا لَهُ مُعَانَاتُهُمْ وَتَقَلُبُهُمْ بَيْنَ أَصْنَافِ النَّاسِ، أَوْ مَنْ لَمْ يُجَرِّبْ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمَنْ لَمْ يَرْفَعِ الْغِطَاءَ عَمَّا اسْتُتِرَ فِي زَوَايَا السِّيَاسَةِ، أَوْ لَمْ يَصْدَحْ بِحُجَجِ الْإِيمَانِ فِي مُنْتَدَيَاتِ الْفِكْرِ، فَإِصَابَةُ الْقَوْلِ فِي فِقْهِ الدَّعْوَةِ إِنَّمَا هِيَ حَكْرٌ عَلَى مَنْ عَانَى مُعَانَاةَ الدُّعَاةِ، وَذَاقَ الْأَرَقَ، وَأَحْصَى نُجُومَ الضُّحَى، وَكَوَتْ قَلْبَهُ الْلَّذَعَاتُ، وَلَا يُؤَهَّلُ الْمُتْرِفُ رَائِدُ الْكُتُبِ وَحَبِيسُ الْمَكْتَبَاتِ لِشَئٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا لمَمَاً، كَمَا لَا يُؤَهَّلُ لَهُ آخَرُ مِنَ الْعُلَمَاءِ الرَّسْمِيِّيِنَ الَّذِينَ تُحَرِكُهُمُ الطَّلَبَاتُ، فَيَظْهَرَ فِي التِّلْفِزْيُونِ يَلُوكُ لِسَانَهُ قَضَايَا فِقْهِ الدَّعْوَةِ هُوَ عَنْهَا بِمَعْزِلٍ، وَلَهَا غَيْرُ مُمَارِسٍ، وَكُلُّ هَمِّهِ أَنْ يَسُبَّ التَّطَرُّفَ سَبْعِينَ مَرَّةً لِيُرْضِيَ الَّذِينَ أَنَطَقُوهُ.

وَالْيَومَ أَصْبَحَ عِلْمُ الْوَاقِعِ أَهَمَّ بِكَثِيرٍ مِمَا كَانَ فِي الْقُرُونِ الْأُولَى، لِأَنَّ الْحَيَاةَ فِي كُلِّ جَوَانِبِهَا أَصْبَحَتْ مُعَقَّدَةً، سَوَاءً فِيمَا يَخُصُّ الْفِقْهَ الْعَامَ، كَالإِفْتَاءِ فِي قَضَايَا التَّأمِينِ وِالْبُورْصَاتِ وَالشَّرِكَاتِ الَّتِي فِيهَا مِنَ الدَّقَائِقِ مَا لَا يَعْرِفُهُ صَاحِبُ الْإِهْتِمَامِ الشَّرْعِيِّ إِلَّا إِذَا أَعَانَهُ خَبِيرٌ اقْتِصَادِيٌّ وَمَالِيٌّ، أَوْ فِيمَا يَخُصُّ فِقْهَ الدَّعْوَةِ وَالسِّيَاسَةِ إِذْ اخْتَلَطَتِ الْمُؤَثِرَاتُ العَالَمِيَّةُ وَالْمَحَلِيَّةُ، وَتَشَابَكَتْ وَتَعَدَّدَتْ أَنْوَاعُ الْأَحْزَابِ وَالْقُوَى الْمُتَنَافِسَةِ، وَبِتْنَا نَشْهَدُ صِرَاعَ الْخُطَطِ وَالْاسْتِرَاتِيجِيَاتِ الْمُتَعَاكِسَةِ وَكَثِيرٍ مِنْهَا خَفِيَ فِي عِدَادِ الْأَسْرَارِ، وَبَاتَ الْفَقِيهُ الدَّعَوِيُّ بِحَاجَةٍ إِلَى تَقَارِيرٍ مِنْ مَرْكَزِ دِرَاسَاتٍ إِسْلَامِيٍّ، تَصِفُ وَاقِعَ الْبَلَدِ وَالْأُمَةِ بِعَامَّةٍ، وَتُحَلِّلُ جُذُورَ الْقَضَايَا الظَّاهِرَةِ، وَتَتَفَرَّسُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَعِنْدَئِذٍ تَكُونُ فَتْوَى الْفَقِيهِ وَاجْتِهَادَاتِهِ مُتَنَاسِبَةً مَعَ حَقَائِقِ الْوَاقِعِ وَآخِرِ التَّطَوُّرَاتِ، وَأَصْبَحَ الْإفْتَاءُ الدَّعَوِيُّ أَقْرَبَ أَنْ يَكُونَ عَمَلِيَّةً جَمَاعِيَّةً مِن أَنْ يَكُونَ فَرْدِيًّا، وَخَرَجَتِ الْفَتْوَى عَنْ أَنْ تَكُونَ مُجَرَّدَ إِحَاطَةٍ بِمَدَارِكِ الشَّرْعِ إِلَى أَنْ تَكُونَ مُحِيطَةً بِمَدَارِكِ السِّيَاسَةِ وَالتَّنْظِيمِ وَالإِعْلَامِ وَالتَّرْبِيَةِ ... ).]

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير