الثانية: أنه لو كان حقيقة في الفعل لاطرد في كل فعل إذ هو لازم الحقيقة ولهذا فإنه لما كان إطلاق اسم العالم على من قام به العلم حقيقة اطرد في كل من قام به العلم ولما كان قوله: " واسأل القرية " " يوسف 82 " مجازاً عن أهلها لما بينهما من المجاورة لم يصح التجوز بلفظ السؤال للبساط والكوز عن صاحبه وإن كانت الملازمة بينهما أشد وهو غير مطرد إذ لا يقال للأكل والشرب أمر.
الثالثة: أنه لو كان حقيقة في الفعل لاشتق لمن قام به منه اسم الآمر كما في القول المخصوص إذ هو الأصل إلا أن يمنع مانع من جهة أهل اللغة كما اشتقوا اسم القارورة للزجاجة المخصوصة من قرار المائع فيها ومنعوا من ذلك في الجرة والكوز ولم يرد مثله فيما نحن فيه.
الرابعة: أن جمع الأمر الحقيقي في القول المخصوص بأوامر وهو لازم له لنفس الأمر لا للمسمى وهو غير متحقق في الفعل بل إن جمع فإنما يجمع بأمور.
الخامسة: أن الأمر الحقيقي له متعلق وهو المأمور وهو غير متحقق في الفعل فإنه وإن سمي أمراً فلا يقال له مأمور ويلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم.
السادسة: أن من لوازم الأمر الحقيقي وصفه بكونه مطاعاً أو مخالفاً ولا كذلك الفعل.
وفي هذه الحجج نظر: أما الأولى فلقائل أن يقول: لا نسلم أنه يلزم من كونه حقيقة في الفعل أن يكون مشتركاً إذا أمكن أن يكون حقيقة فيهما باعتبار معنى مشترك بين القول المخصوص والفعل فيكون متواطئاً فإن قيل: الأصل عدم ذلك المسمى المشترك فلا تواطئ قيل: لا خفاء باشتراكهما في صفات وافتراقهما في صفات فأمكن أن يكون بعض الصفات المشتركة هو المسمى كيف وإن الأصل أن لا يكون اللفظ مشتركاً ولا مجازاً لما فيه من الافتقار إلى القرينة المخلة بالتفاهم وليس أحد الأمرين أولى من الآخر.
فإن قيل: ما وقع به الاشتراك لا يخرج عن الموجود والصفة والشيئية وغير ذلك وأي أمر قدر الاشتراك فيه فهو متحقق في النهي وسائر أقسام الكلام ولا يسمى أمراً والقول بأنه متواطئ ممتنع كيف وإن القائل قائلان: قائل إنه مشترك وقائل إنه مجاز في الفعل فإحداث قول ثالث يكون خرقاً للإجماع وهو ممتنع.
قلنا: أما الأول فغير صحيح وذلك أن مسمى اسم الأمر إنما هو الشأن والصفة وكل ما صدق عليه ذلك كان نهياً أو غيره؟ فإنه يسمى أمراً حقيقة وعلى هذا فقد اندفع ما ذكروه من خرق الإجماع فإن ما ذكرناه من جعل الشأن والصفة مدلولاً لاسم الأمر فمن جملة ما قيل وإن سلمنا أن ذلك يفضي إلى الاشتراك ولكن لم قيل بامتناعه والقول بأنه مجاز بالتفاهم لافتقاره إلى القرينة وإنما يصح أن لو لم يكن اللفظ المشترك عند إطلاقه محمولاً على جميع محامله وليس كذلك على ما سيأتي تقديره في مذهب الشافعي والقاضي أبي بكر سلمنا أنه خلاف الأصل غير أن التجوز أيضاً خلاف الأصل وليس أحد الأمرين أولى من الآخر.
فإن قيل: إلا أن محذور الاشتراك أعظم من محذور التجوز فكان المجاز أولى وبيانه من جهة الإجمال والتفصيل: أما الإجمال فهو أن المجاز أغلب في لغة العرب من الاشتراك ولولا أنه أوفى بتحصيل مقصود الوضع لما كذلك.
وأما التفصيل فمن وجهين: الأول: أن المحذور اللازم من الاشتراك بافتقاره إلى القرينة لازم له أبداً بخلاف المجاز فإن المحذور إنما يلزمه بتقدير إرادة جهة المجاز وهو احتمال نادر إذ الغالب إنما هو إرادة جهة الحقيقة.
الثاني: أن المحذور لازم في المشترك في كل محمل من محامله لافتقاره إلى القرينة في كل واحد منها بخلاف المجاز فإنه إنما يفتقر إلى القرينة بتقدير إرادة جهة المجاز لا بتقدير إرادة جهة الحقيقة.
قيل هذا معارض من عشرة أوجه: الأول: أن المشترك لكونه حقيقة في كل واحد من مسمياته مما يطرد بخلاف المجاز كما سبق وما يطرد أولى لقلة اضطرابه.
الثاني: أنه يصح منه الاشتقاق لكونه حقيقة بخلاف المجاز فكان أوسع في اللغة وأكثر فائدة.
الثالث: أنه لكونه حقيقياً مما يصح التجوز به في غير محله الحقيقي بخلاف المجاز فكان أولى لكثرة فائدته.
الرابع: أنه وإن افتقر إلى قرينة لكن يكفي أن يكون أدنى ما يغلب على الظن بخلاف المجاز لافتقاره إلى قرينة مغلبة على الظن وأن تكون راجحة على جهة ظهور اللفظ في حقيقته فكان تمكن الخلل منه لذلك أكثر.
¥