حتى لقد بلغ الضعف العلمي بتلك الطائفة ومقدمها أستاذ الجامعة، أنهم إذ ينكرون الأساليب القديمة في التعبير والبيان، لا يأتون ببديل من الأسلوب الجديد، غير الطنطنة والتكرار، وجمود القريحة، وتبلد الحس.
يقول الرافعي (ص 17):
(وأشهد ما رأيتُ قط كاتبا واحدا من أهل ''المذهب الجديد'' يحسن شيئا من هذا الأمر، ولو هو أحسنه لانكشف له من إحسانه ما لا يبقي عنده شكا في إبطال هذا المذهب وتوهيته، ولذا تراهم يعتلون لمذهبهم الجديد بالفن والمنطق والفكر وبكل شيء إلا الفصاحة، وإذا فصحوا جاؤوا بالكام الفج الثقيل، والمجازات المستوخمة، والاستعارات الباردة، والتشبيهات المجنونة، والعبارات الطويلة المضطربة التي تقع من النفس كما تقع الكرة المنفوخة من الأرض لا تزال تنبو عن موضع إلى موضع حتى تهمد!).
وقد عرف الرافعي – رحمه الله – من طه حسين ذلك الضعف في ملكة التعبير، والنضوب في ملكة الكتابة، فاستهزأ ما شاء، وتهكم بالرجل وأسلوبه في الشعر والنثر، حتى لم يُبقِ في كيانه موضع ذرة لم يملأه بدواعي الخجل، لو أن الخجل يعرف إلى ذلك المفتون سبيلا.
فهو ينقل مثلا قول طه في بعض ما كتب (ص 81):
(نعم قصة المعلمين، فللمعلمين قصة وللمعلمين قضية، وكنا نحب ألا تكون للمعلمين قصة وألا تكون للمعلمين قضية، لأننا نربأ بمقام المعلمين عن أن تكون لهم قصة أو قضية، ولكن أراد الله ولا مرد لما أراد الله أن يتورط المعلمون في قصة، وأن يتورط المعلمون في قضية، ليست قضيتهم أمام المحاكم وإن كانت أوشكت في يوم من الأيام أن تصل إلى المحاكم، وليست قصتهم مفزعة مهلعة (كذا كذا) وإن كانت أوشكت في يوم من الأيام أن تكون مفزعة مهلعة).
ويعلق بعد ذلك قائلا:
(فهذه عشرة أسطر صغيرة دار ''المعلمين'' فيها عدد أيام الحسوم .. وحكيت ''القصة'' ست مرات، وكان ''للقضية'' ست جلسات، غير ما هنالك من مفزعة ومهلعة قد أفزعت وأهلعت مرتين وغير ما بقي مما هو ظاهر بنفسه ... ).
ولا يترك الرافعي فرصة تمر دون أن يذكر القارئ بأن طه حسين لا يساوي في ميزان البلاغة شيئا، إن هو إلا التكرار الممل، والتفاصح المخزي، والتعالم المقيت. ويقول له فيما يقول (ص 86):
(على أني لو أردتُ أن آخذ معك في كتابتي هذا المأخذ لجعلتك تتلوى من الكلام المؤلم على مثل أسنان الإبر، ولاستقبلتك بما لا تدري معه أين تذهب ولا كيف تتوارى، كالإعصار الذي يأخذ عليك الجهات الأربع من آفاقها، أفأنت تقوم لي في باب الاستعارة والمجاز والتشبيه؟).
ما أُشَبّه هذا إلا بالذي يذبح الشاة المسكينة المضطربة، ثم يضع قدمه على صفحة عنقها، ويقول في نشوة الظافر: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لكان لي فيكِ نكاية أشد من هذا الذي أنت فيه)! وهل تركتَ – أيها الأديب الجليل – في ذاك المسكين موضعا للزيادة، وقد ابتلي منك بما أذهله عن صُبابة فكره الحائر، وأغرز في فتنته أنياب المنايا الزرق، لو أن للمنايا أنيابا؟
وقد ذكرني صنيع الرافعي – رحمه الله - هنا بصنيعه مع الجبار في سفوده الذي وضعه له، مخصوصا به، فقد شواه هنالك على نار حامية في حرها، هادئة في وهجها، فما ترك فيه موضعا لفخر، ولا مكانا لجبروت.
وبالجملة، فإن طه حسين ومن معه يدعون إلى جديد لا طعم له، غير مرارة العلقم، ويهدمون قديما هو الطعم اللذيذ كله، والجمال الآسر كله، ومجامع الحسن كلها.
...
أما الأصل الثاني الذي يرجع إليه أنصار الجديد، ويمتحون من ثماده فهو التعلق بأهداب الغرب، فيما يأتي وما يذر. فهم قد ارتضعوا لبان الغرب، حتى أتخموا، فلم يعد لطعم التراث العربي في أفواههم مساغ.
وقديما قال أبو الطيب في مثل هذا:
ومن يك ذا فم مر مريض = يجد مرا به الماء الزلالا
ثم إن هؤلاء، لم يروضوا أنفسهم بتذوق الشعر العربي القديم، ولم يرجعوا في ذلك إلى فهم ثاقب، ولا إلى ملكة فنية راسخة. فاجتمع في قلوبهم المريضة الجهل بمحاسن القديم، والافتتان بنتاج الغرب الذي يسمونه جديدا، فضلوا الطريق من حيث يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
¥