وليت إعجابهم بالغرب الكافر، يكون محصورا في إعجاب بأسلوب في الأدب مستحدث، أو طريقة في الشعر مبتدعة، إذن لهان الأمر قليلا، ولأمكن رقع ذلك الخرق بأقل جهد، وأيسر معالجة. ولكن الأمر – في صميمه - افتتان بالغرب من حيث هو، أي بالغرب كله، حتى بالقذارات التي في بطون أهله، كما صرح بذلك عميدهم.
وإذا كان الغرب قد اطرح الكنيسة، وألغى وجودها العملي في الاجتماع والسياسة، فإن أنصار الجديد يطالبوننا بأن نلغي ديننا وأخلاقنا وقيمنا الثقافية والحضارية، ونتجرد من ذلك كله، لنكون أحرارا من القيود كلها، عند ممارسة البحث العلمي.
وإذا كان الغرب يشك في المسلمات والثوابت العقدية، ويتخذ الشك مطية للوصول إلى ما يشبه برد اليقين (1)، فإن أنصار الجديد ينتظرون منا أن نشك في ما يقصه علينا القرآن، وأن نشك في الذي يحدثنا به نبينا صلى الله عليه وسلم، وأن نشك في وجود أشخاص قد كانوا في تاريخنا القديم؛ وأن نشك في كل شيء، إلا في أن الغرب إله لنا من دون الله، يستحق الطاعة والاتباع والعبادة!
والرافعي – عليه رحمة الله – لم يجمجم ولم يداهن، ولم يتبع طرائق السياسيين في قول بعض ما يرون، وإخفاء أضعاف ذلك، حرصا على وحدة موهومة، أو مودة مزعومة. بل أعلن برأيه في هؤلاء القوم صراحةً في مواضع متفرقة من كتابه، وأظهر كفرهم وزندقتهم، وأنهم يؤولون في رأيهم إلى إنكار الدين، والتفصي من الأحكام الإلهية.
وما أجمل قوله (ص 52):
(ولأقل لك في صراحة إن مساجد القاهرة ترى ألف سائح كل سنة ولا ترى في السنة كلها واحدا من أهل الجديد، فهذا هو مرد تلك النزعة).
وينكر على هؤلاء القوم سوء أدبهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول (ص164):
(وأما رأيه في النبي صلى الله عليه وسلم فمن أعجب ما عجبنا له أنه ما من عالم أو كاتب مسلم يذكره صلى الله عليه وسلم إلا صلى عليه أو وضع رمز الصيغة ولو هذا الحرف (ص) وترى كتاب المسيحية يأخذون بهذا الأدب في كتبهم العربية، لأن المسلمين يقرأونها؛ أما أستاذ الجامعة فكأنه لا يتولى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يحس عظمته ولا أثره، فقد ذكره في كتابه مرارا تفوت العد فلم يتأدب معه ولا مرة واحدة، فلا بعقيدة المسلمين أخذ، ولا بمجاملة المسيحيين اقتدى، بل طريقته هي طريقة المبشرين بعينها، .. ) (2).
وكم من رأي يجهد صاحبه في ستره، بزخرف من القول، ومنمق من الحيل، ثم لا يلبث أن يظهر جليا في بعض الكلام، مما يقال أو يترك، فيذر صاحبه كالعريان، الذي يرى الطائفون حوله سوأته، وليس يملك إلى تغطيتها سبيلا.
...
والرافعي في كتابه هذا، وفي كتابه الآخر الذي أرخ فيه لآداب العرب (3)، يظهر من سعة الاطلاع، وطول الباع، في علوم اللغة والأدب، ما يقسر القارئ على الإذعان لرأيه، والتسليم لعصارات فكره.
لكأن الرجل حين يتكلم في مسألة من دقائق اللغة، يقرأ في كتاب مفتوح، جامع لمسائل اللغة، ومباحثها العظيمة، يأخذ ما يشاء، ويذر ما يشاء.
ولكأنه حين يبحث منهجا أدبيا، أو طريقة من طرائق الشعر، قد تسنم قنة جبل شاهق، يطل على آداب العربية كلها، فهو يحكم عن علم، ويشهد عن معرفة دقيقة شاملة.
ويغذي هذه الإحاطةَ المعرفية الشاملة، عمق في التصور الفكري، ورسوخ في الحكمة الفلسفية، يصحبهما شدة نزع في توليد الأفكار، واستقصاء حقائق المعاني إلى الغاية التي ما بعدها غاية.
وهو إلى جانب ثقافته العربية، يرجع إلى معرفة طيبة بالثقافة الغربية، كما يظهر من نقده لبعض كلام (أناتول فرانس)، أو وصفه لحال (ألكسندر دوماس)، أو رده على المتحذلقين الذين يظنون أنفسهم سائرين على خطى بعض كتاب الغرب، وهم بعيدون عنهم، فكرا وأسلوبا ومنهجا أدبيا، بعد السماء عن الأرض.
...
أما أسلوب الرافعي في كتابه، فهو أسلوب الرافعي وحسب!
ومهما أردتُ أن أثني بخير ما يكون الثناء، أو أصف بأبلغ ما يكون الوصف، فلن أزيد بعد لأي من القول، وجهد من الفكر، على أن أقول: هو أسلوب الرافعي في أبهى ما يكون من صور الجمال والنصاعة والقوة.
¥