قول الشيخ الميلي: ((كما بيناه في الفصل الحادي عشر))، يعني به قوله في (ص153): ((ثم التبرك حيث أثبت في روايات الإثبات، فإن المقصود منه طلب الزيادة في ثواب الطاعة، قال الباجي: في ((المنتقى)) موجها إعلامه صلى الله عليه و سلم لأمته بقصة وادي السرر: ((و غنما أعلم بذلك صلى الله عليه و سلم فيما يظهر إلي-والله أعلم-لفضل الذكر عنده [5] لمن مر بها، ورجاء إجابة الدعاء، وتنزل الرحمة عندها)).
علق عليه الشيخ الميلي بقوله: ((و التبرك على هذا الوجه عندي معقول؛ لأن ذكرى الأنبياء و الصالحين ورؤية آثارهم مما يزيد الموحدين خشوعا وتعريفا بتقصيرهم في طاعة خالقهم، فتخلص بذلك عبوديتهم لله تعالى، وحينئذ تكون الإثابة على عبادتهم أسمى، وقبول دعائهم أرجى و طمعهم في تنزل الرحمة أقوى، وروايات نفي التبرك غير معارضة لروايات إثباته بهذا المعنى؛ لأن النافين إنما يقصدون الاحتياط على عقائد العامة ان تزيغ كما سبق في توجيه مخاطبة عمر رضي الله عنه للحجر الأسود، وأنه قطع الشجرة خوف الفتنة، وأنه حذرهم أن يهلكوا بتتبع الآثار هلاك أ÷ل الكتاب ...
والذي تفيده النقول في مجموعها إثباتا و نفيا و توجيها: أن التبرك مشروع مقيد بقيود:
احدها أن يكون التبرك بفعل طاعة مشروعة [6]، كصلاة، ودعاء، ورجاء القبول، وزيادة الأجر؛ لا بحمل تراب أو بخور و غيرهما من أجزاء المكان المتبرك به، أو الأشياء الموضوعة فيه ...
ثانيها: أن لا يحمل المتبرك غيره على التبرك، ولا أن يدعوه غليه، فلا ينصب شيء للعموم يتبركون به [7].
ثالثها: أن يتفق له المرور بمكان التبرك، لا أن يقصد إليه من بعيد و يقتحم السفر من أجله.
رابها: أن يكون من المعرفة بدينه [8] بحيث لا تضله خطرات النفس، ولا نزغات الشيطان، لا أن يكون ضعيف الإيمان قليل المعرفة)).
وقال أيضا في (ص358): ((وقد تقدم في الفصل الحادي عشر حديث السرحة التي سر تحتها سبعون نبيا، وزيارة النبي صلى الله عليه و سلم لقباء راكبا و ماشيا يصلي فيه ركعتين، وذلك يدل لمشروعية زيارة الأمكنة الفاضلة من غير سفر)).
أقول و بالله التوفيق:
ذهب الشيخ الميلي فيما سبق إلى جواز البرك بقبر النبي صلى الله عليه و سلم و توسع هنا فجوز التبرك بآثار الأنبياء و الصالحين.
وفي كلامه نظر من وجوه:
الوجه الأول: الصواب عدم جواز التبرك بآثار الأنبياء و الصالحين؛ لما تقدم ذكره في مسألة التبرك بقبر النبي صلى الله عليه و سلم، و أضيف هنا ما قاله ابن تيمية رحمه الله في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 694): ((من قصد بقعة يرجو الخير بقصدها، ولم تستحب الشريعة ذلك، فهو من المنكرات وبعضه أشد من بعض، سواء كانت البقعة شجرة أو غيرها، أو قناة جارية، أو جبلا، أو مغارة، وسواء قصدها ليصلي عندها، أو ليدعو عندها، أو ليقرأ عندها، أو ليذكر الله سبحانه عندها، أو لينسك عندها، بحيث يخص تلك البقعة بنوع من العبادة التي لم يشرع تخصيص تلك البقعة به لا عينا ولا نوعا)) انتهى.
وقال أيضا في ((مجموع الفتاوى)) (27/ 503 - 504): ((لم يشرع الله تعالى للمسلمين مكانا يقصد للصلاة إلا المسجد، ولا مكانا يقصد للعبادة إلا المشاعر، فمشاعر الحج، كعرفة و مزدلفة و منى تقصد بالذكر و الدعاء و التكبير لا الصلاة، بخلاف المساجد، فإنها هي التي تقصد للصلاة، وما ثم مكان يقصد بعينه غلا المساجد و المشاعر، وفيها الصلاة و النسك ... وما سوى ذلك من البقاع فإنه لا يستحب قصد بقعة بعينها للصلاة ولا للدعاء ولا الذكر، إذ لم يأت في شرع الله و رسوله قصدها لذلك، وإن كان مسكنا لنبي أو منزلا أو ممرا؛ فإن الذين أصله متابعة النبي صلى الله عليه و سلم وموافقته بفعل ما امرنا به و شرعه لنا و سنه لنا، ونقتدي به في أفعاله التي شرع لنا الإقتداء به فيها، بخلاف ما كان من خصائصه، فأما الفعل الذي لم يشرعه هو لنا، ولا أمرنا به، ولا فعله فعلا سن لنا أن نتأسى به فيه، فهذا ليس من العبادات و القرب، فاتخاذ هذا قربة مخالفة له، وما فعله من المباحات على غير وجه التعبد يجوز لنا أن نفعله مباحا كما فعله مباحا، ولكن هل يشرع لنا أن نجعله عبادة و قربة؟ فيه قولان كما تقدم، وأكثر السلف و العلماء على انا لا نجعله عبادة و قربة، بل نتبعه فيه، فإن فعله مباحا فعلناه مباحا، وإن فعله قربة فعلناه قربة)) انتهى.
¥