فقد عُرِفَ عن الشيخ ابن باديس أنه كان في كثير من مواقفه ليّنًا من غير ضعف، لكنه حين تمس مبادئ الدين الحنيف، ويحس بأن هناك كيدا لجمعية العلماء المسلمين ينقلب إلى ليث هصور وثابٍ غير هيابٍ، فينطبق عليه ما وصفه به أحد رفاقه:" فهو في الحق صارم ... وحين تخور العزائم، فهو شجاع شجاعة مَن لا يخاف في الله لومة لائم، ولا غطرسة ظالم متجبّر".
وهذا المقال الذي يرد فيه على خطاب ألقاه في مجلس النواب المدعو " علي ابن غراب " أحد النواب الجزائريين من علماء وأذيال فرنسا الإستدمارية، وقد هاجم فيه الحركة الاصلاحية ممثلة في جمعية العلماء المسلمين، داعيا السلطات الفرنسية إلى التضييق على نشاطاتها وغلق مدارسها وتوقيف صحفها.
وقد نشر هذا الرد في صحيفة " الصراط السوي " التي كانت تطبع وتصدر بمدينة قسنطينة وهي التي خلفت صحيفة الشريعة [وقد صدر العدد الأول من صحيفة " الصراط السوي " يوم الاثنين 21 جمادى الأولى 1352 هـ/ 11 سبتمبر 1933م، وقد أصابها ما أصاب أخواتها من تضييق ومصادرة، فتوقفت هي الأخرى نهائيا، وكان آخر عدد يصدر عنها بتاريخ 22 رمضان 1352 هـ/ 08 جانفي 1934م.]
[انظر " ابن باديس: حياته وآثاره، الدكتور عمار طالبي، دار الغرب الاسلامي بيروت، الطبعة الثانية 1403 هـ/ 1983م " (1/ 87)]
نشر هذا الرد على دفعتين في العددين الأول والثاني من صحيفة " الصراط السوي ".
تحت عنوان: "رد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين على خطاب ابن غراب"
" لو كان هذا الرجل وجه على الجمعية أضعاف ما وجه عليها من تهم واعتدى عليها بأضعاف ما اعتدى به عليها من سب وإذاية من عند نفسه، وفي مجلس من أي مجالس مثله، لكان محققا من الجمعية ألا تسمعهن ولو سمعته لكان حقا عليها أن لا تقول له إلا " سلاما" ... ولكن الرجل كان - عن رضى واختيار- آلة هدم وتخريب، وبوق شر وفساد، في مجلس رسمي قد استدعى الناس له الناس ويحتج بأقوالهم، فلهذا تنازلت الجمعية لرد افتراءات النائب واعتداءاته.
زعم أن الفتنة والقلاقل والمشاغب منتشرة في الوطن، وأن سببها هو الجمعية وكذب في الاثنين.
فأما الزعم الأول: فإن المشاهد في الوطن كله هو السير المعتاد في الأعمال دون تظاهر ولا تجمهر ولا مصادمة بين قوتين ولا توقف عن أداء حكومي ولا تصدي لأحد بسوء، وإنما الموجود في الوطن حركة هادئة عامة نحو ما وعدت فرنسا الجزائريين من حقوق تعطى لهم في القريب، ولعمر الحق إن تسمية هذا فتنة وقلاقل ومشاغب لمن الكذب الحبريت وقلب للحقائق اللذين لا يصدران إلا عن ذمة خربة وقلب مريض ونفس شريرة لا تبالي ماذا تجني، أو جاهلة لا تدري ماذا تقول، وإذا كنا نسمي توجه الجزائريين بمطالبهم في هدوء ونظام إلى فرنسا فتنة، فبماذا نسمي ما قام به أصحاب الأعتاب من التظاهر في بلدان عديدة بعنف وشدة وتهديد حتى عطلوا إحدى الجلسات في النيابة المالية لإظهار استيائهم؟
إن الأشياء - يا هذا - لا تخرج عن حقائقها بما يخلع عليها من الأسماء حسب الأغراض والأهواء.
وأما الزعم الثاني: فان حركة الجزائريين نحو مطالبهم من دولتهم إنما سببه ما علموه من عناية بعض رجال فرنسا بها، وما بلغهم من بروجي م قرني وبروجي م فيوليت [الحاكم العام الفرنسي صاحب المشروع المشهور]، ثم ما شاهدوه من حزم بعض نوابهم وذهابهم إلى فرنسا، أولا بصورة فردية، وثانيا بصورة عمومية، ثم كان ما كان من استياء من أن نوابهم ردوا ولم يقبلوا وفهموا من عدم قبول نوابهم عدم قبول مطالبهم ثم أحسوا بضغط من ناحية وضعف من الناحية الأخرى فرجعوا إلى سكوتهم كسابق عادتهم واستعصموا بالانتظار الذي تعودوه من أمد طويل، فهم ساكتون منتظرون.
هذه هي الأسباب المنطقية التي يؤيدها الحس ويجسمها الواقع لما كان من حركة في الأمة ولن يستطيع تمويه غراب ومن لقنه أن يزيد عليها أو ينقص منها.
¥