تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

إن حرب الجزائر كانت جهادا والمحاربين كانوا مجاهدين لأنهم استجابوا لنداءات الأئمة والعلماء الذين أفتوهم بوجوب الإلتحاق بصفوف الثوار وأن ساعة الحق قد أنت، وأن موتهم في سبيل الله هو وصولهم إلى الحياة الحقيقة الأبدية، وأن قتالهم للعدو لا خسارة فيه فإما نصر وإما شهادة، ولقد كان من تلك الفتاوى ما سطر بالقول والحبر ومنها ما سطر بالعمل والدماء والسبق إلى ميدان الشرف، ومن تلك الفتاوى التي سجلت بالحبر فبقيت شاهدة على الحق مجلية للحقائق بيان الشيخ البشير الإبراهيمي والفضيل الوتيلاني الصادر في الثاني من نوفمبر والذي جاء فيه:" فخفقت القلوب لذكرى الجهاد الذي لو قسمت فرائضه لكان للجزائر منه حظان بالفرض والتعصيب واهتزت النفوس طربا لهذه البداية التي سيكون لها ما بعدها" ([17]). وكذا البيان الصادر في اليوم التالي الذي تضمن فتوى صريحة بوجوب الجهاد حيث جاء في آخره:" اعلموا أن الجهاد للخلاص من هذا الاستعباد قد أصبح اليوم واجبا عاما مقدسا فرضه عليكم دينكم، وفرضته عليكم قوميتكم، وفرضته رجولتكم، وفرضه ظلم الاستعمار الغاشم الذي شملكم، ثم فرضته أخيرا مصلحة بقائكم لأنكم اليوم أمام أمرين: إما حياة أو موت، إما بقاء كريم أو فناء شريف" ([18]).

وعظ وتذكير في قلب المعركة

ولا يغفل دور العلماء والأئمة والوعاظ وأهل اللغة والبيان الذين كانوا في صفوف الجيش ومع بقية الشعب، يثبتون القلوب ويرفعون الهمم ويبشرون بالفلاح، فبكلماتهم تتجدد العزائم وبتذكيرهم تسموا النفوس وتشرئب نحو المعالي في ثبات غير مبالية بالصعاب وبالبلاء الذي يصيبها في ذات الله عز وجل.

فمنذ اندلاع الحرب وإعلان الجهاد اتجه المجاهدون نحو الجماهير يخلطبونها باللغة العربية دون سواها ويشحذون عزيمته وروحه الجهادية بواسطة القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، فكان الاتصال بالشعب مباشرا مستمرا من طرف مسؤولي الثورة من سياسيين وعسكريين وقضاة، وكان التذكير بواجب الجهاد ضد الغزاة المحتلين متواصلا حتى تحررت الجزائر ([19]).

ومن هؤلاء المجاهدين الذين كانوا في الميدان يقومون بهذه المهمة الشيخ محمد الصالح الصديق الذي يحكي لنا هذا المشهد المؤثر:"وإن كنت أنسى فلن أنسى ما دمت حيا اجتماع المجاهدين قرية (تبودوشت) ببني جناد (قرب أزفون) ليلة السابع عشر من رمضان سنة 1955م وكانوا مختلفين سنا وزيا وسلاحا، ولا أكتم الحقيقة أني فكرت طويلا في هؤلاء الذين أقدموا على مواجهة قوة من أعظم القوى في العالم، وعزموا على مقارعة جيوش وفيالق يزحم بها الفضاء، ويضيق بها بساط الغبراء، أليسوا مجرد مغامرين يستحثون خطاهم إلى الموت؟ ولكن ما لبثت أن تذكرت فإذا أنا يقظ مبصر تذكرت صنائع الإيمان والعقيدة، وتذكرت أبطال التاريخ الإسلامي الذين صنعوا مجد الأمة بإيمانهم وعزمهم وبطولتهم.

فالعقيدة الصحيحة هي التي فتحت على المؤمنين الأولين ذلك الملك الواسع وصنعت من إيوان كسرى مجدا لسعد بن أبي وقاص، وتمخضت هذه المعاني في نفسي، وتصورت كل مجاهد أمام عيني قد تقمص روح خالد أو طارق، وعندما أنهيت كلمتي فيهم كبروا في لهجة صادقة، وجملة "الله أكبر"تضمنت سر الاعتقاد وسر الجهاد وسر الفداء وسر النصر والتمكين.

وتضاءلت أمامهم عندما انبرى للحديث أحدهم وهو في السبعين من العمر يدعى (عمي علي) ذو لحية كثيفة بيضاء تطل من عينيه شرارة العزم والحماسة، أمنيته الوحيدة منذ زمن طويل أن يمتد به الأجل حتى تندلع الثورة فينتظم في صفوف المجاهدين، وقال في إصرار وتصميم ما مؤداه باللغة الفصيحة:"إننا قد عاهدنا الله أن نواصل جهادنا حتى نحرر الجزائر أو نفوز بالشهادة" ([20]).

عقيدة في القلوب ومصاحف في الجيوب

ومن الأمور المأثورة عن المجاهدين والمؤثرة في النفوس أخبار اصطحاب للمصحف الشريف لتلاوة القرآن الكريم الذي كان يعتبر زادا تتقوت به القلوب وتتزود به النفوس وتتقوى به الأبدان، لمواجهة العدو بثبات في الميدان، ويزداد الأمر تأثيرا إذا تعلق الأمر بأحد المجاهدين الكبار أو شهيد ومن الشهداء الأبرار.

ومن هؤلاء العقيد عميروش رحمه الله تعالى الذي استشهد وهو يحمل في جيبه المصحف الشريف ([21])، ولعله يكون المصحف الذي أرسله إليه الشيخ العربي التبسي حين طلب منه أن يكتب له وصية يعمل بها الجهاد.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير