وإن قيادة الولاية الأولى (الأوراس) التي رفضت مؤتمر الصومام لأجل لغته وكثير من أفكاره، قد ثبت عنها لما كلفت أحدهم بكتابة منشور يبشر بالثورة في الجنوب كتبه بلغة شيوعية وبناه على الدفاع عن الطبقة الكادحة فرفض وكُلف شخص آخر بصياغته فقال:"فما كان مني إلا أن ركزت في صوغه على الدعوة إلى الجهاد والاستشهاد في سبيل الله، وجوب طرد الاستعمار والعمل على إقامة الدولة الجزائرية في إطار المبادئ الإسلامية مهما كانت التضحيات"، وبعد أن اطلع عليه القادة ودرسوا ما فيه من أفكار ومعاني نال إعجابهم وأمروا بنسخه ونشره ([9]).
الحرب جهاد لكن لما أراده ونواه
لقد كان القتال ضد الفرنسيين جهادا لكن بالنسبة لمن أراده ونواه وعلم فضله وفضل الشهادة في سبيل الله، فكان شعاره في الميدان القتال حتى النصر أو الشهادة، وكان يطلق رصاصه مدويا مصحوبا بصيحات "الله أكبر" التي كانت ترعب العدو أكثر من صوت الرصاص، وكان جهادا لمن لم ينس ربه وحقه ووعده، فلا يزال رافعا يديه إلى السماء يسأل ربه النصر والتأييد.
وأما من يرفض أن يسميه جهادا وينكر أن يكون للإسلام أي دور في الحرب التحريرية، وزيادة على ذلك ربما لم يطلق رصاصة واحدة صوب العدو فهذا له ما أراد. "وإنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى".
إنه جهاد بالنسبة لهؤلاء الذين كان أحدهم يقول وهو في سكرات الموت وهو يحتضر بعدما أصيب في معارك الكرامة:" إنني الآن أموت قرير العين غير آسف على شيء فالجنة أمامي والنصر ورائي"، ويقول آخر:" بعد لحظات ستنفلت روحي من هذا الوجود وتلتحق بربها، ولا شيء يؤسفني لأني أموت في سبيل الله" ([10]).
هؤلاء المجاهدون هم من كان يقسم عند التحاقه بإخوانه في الجبال على المصحف الشريف بأن يقاتل حتى النصر أو الشهادة ([11]). وهم من كانوا يقفون في خشوع كبير لذي الجلال لأداء الصلاة فرادى وجماعات، يقول الشيخ محمد الصالح الصديق:"والمجاهدون في الصلاة الجماعية يتميزون عن غيرهم فيها بأن محاذاتهم للموت في كل وقت يجعلهم يشعرون بأنهم على الأهبة في كل لحظة، ومن هنا فهم في ساعة التجلي التي لا يشعرون فيها إلا بجلال الله وعظمته" ([12]).
الفرنسيون يؤكدون أنها حرب الهلال والصليب
إن حرب التحرير كانت جهادا، لأنها كانت استمرارا للحروب الصليبية، وهذا باعتراف الفرنسيين إبان الاحتلال وأثناءه وبعد الاستقلال، فإن المستدمر الصليبي كانت نيته يوم زحف على الجزائر كبح المد الإسلامي وإيقاف الفتوحات الإسلامية، وهذه الحقيقة ظهرت في تصريح رئيس الوزراء الفرنسي "دي بولينياك" بعد احتلال الجزائر حيث قال:" إن كان للصراع الذي أوشك أن يبدأ نتيجة هامة؛ فهي التي ينبغي أن تسجل لصالح النصرانية".
وقال القس الذي رافق الحملة الفرنسية على الجزائر في أول صلاة لهم في جامع كتشاوة بعد تحويله إلى كنيسة:"إنكم جئتم معنا إلى هنا لتفتحوا من جديد أبواب النصرانية في إفريقيا" ([13]).
وقال سكرتير الحاكم الفرنسي للجزائر في عام 1932:" إن آخر أيام الإسلام قد دنت وفي خلال عشرين عاما لن يكون للجزائر إله غير المسيح" ([14]).
وكذلك أثناء الاحتلال فإن الفرنسيين أقاموا احتفالات في الذكرى المائة لاحتلال الجزائر، وصرح رئيس جمهورية فرنسا آنذاك أن القصد من هذه الاحتفالات:"تشييع جنازة الإسلام في الجزائر" ([15]).
وظهر ذلك بعد الاستقلال أيضا على لسان أحد كبار المستشرقين الفرنسيين في محاضرة ألقاها في مدريد بعد استقلال الجزائر عنوانها (لماذا كنا نحاول البقاء في الجزائر)، حيث قال فيها ما ملخصه:"إننا لم نكن لنسخر مليون جندي من أجل نبيذ الجزائر أو صحاريها أو زيتونها، إننا كما نعتبر أنفسنا سور أوروبا الذي يقف في وجه زحف إسلامي محتمل يقوم به الجزائريون وإخوانهم من المسلمين عبر المتوسط، ليستعيدوا الأندلس التي فقدوها، وليدخلوا معنا في قلب فرنسا بمعركة بواتيه جديدة ينتصرون فيها، ويكتسحون أوروبا الواهنة، ويكملون ما كانوا قد عزموا عليه أثناء حلم الأمويين بتحويل المتوسط إلى بحيرة إسلامية خالصة، من أجل ذلك كنا نحارب في الجزائر" ([16]).
فتاوى الجهاد وقود الحرب
¥