هذه الآيات تدل بما لا يدع مجالا للشك وجود ”إنجيل آخر” أو ”بشارة أخرى”. ليس هناك ما يدل على أن الإنجيل –الوحي الذي نزل على عيسى من الله عز وجل – قد جُمِع و كٌتِب تماما على الشكل الذي أوحي إليه. من المحتمل أن بولس كان يقصد تلك الروايات و الشهادات التي وصفت حياة المسيح, كإنجيل برنابي الذي أُتلف ثلاثة قرون بعد ذلك, على إثر مجمع نيقية. قد يكون بولس صادقا و متحمسا في أفعاله, لكن حميته الضالة كانت وبالا على النصرانية و أكثر تدميرا على الناصريين من اضطهاده لهم أيام كان ”حبر الأحبار اليهود”. لقد كان لتعاليم بولس بعد وفاته أثر لم يكن يتوقعه هو نفسه. فكتابه الذي سمّاه ”إنجيل المسيح” أدى إلى تحريف كبير لتعاليم عيسى عليه السلام و هيّأ بذلك الطريق لتغيير فكرة الناس عن ”من هو المسيح”. لقد تحوّل في أذهان الناس من رجل إلى ”مفهوم”. فصورة المسيح عند بولس ليست صورة رجل عادي, يحي ثم يموت, بل هي صورة اختلطت فيها صفات الله عز وجل بالمسيح, خاصة - كما رأينا أعلاه – و أنه كان بإمكانه نسخ ما جاء به المسيح. هكذا تحولت هذه الصورة الخيالية للمسيح إلى محط عبادة و أصبح من الصعب التمييز بين الرب و يسوع. هذا الاعتقاد الفاسد وضع مريم الصديقة في وضعية مستحيلة: فمريم عليها السلام هي أم الرب.
اعتناق فلاسفة اليونان للنصرانية المحرفة لموافقتها أهواءهم.
هذا التحول الخطير من يسوع النبي إلى يسوع ذي الخصوصيات الإلهية, جعل فلاسفة اليونان و روما يفكرون في إمكانية الجمع بين فلسفتهم الخاصة و دعوة بولس و أتباعه. كانوا يعتقدون أن الوجود هو ثلاثي التكوين, و قد جمعوا إلى حد الآن ”الرب الأب”و ”ابن الرب” و لم يعد يعوزهم غير ”الروح القدس” للحصول على تثليث يوافق ما هم عليه. لم يكن القديس أوغستين راضيا بالمرّة و أنكر على الفلاسفة الحرية الزائدة:
”الفلاسفة ينطقون كلماتهم بكل حرية…رغم ذلك نحن لا نقول إن كان هناك اثنان أو ثلاث مبادئ, اثنان أو ثلاثة آلهة” ( De Civitate Dei 0/23) (5)
تأثير الفكر الأفلاطوني على النصرانية
اعتمدت فلسفة أفلاطون على تركيب ثلاثي الأبعاد: العلة الأولى, العقل أو اللوغوس logos و النفس أو روح الكون. كتب العلامة البريطاني جيبون (1737 - 1794) عن أفلاطون أن خيال هذا الأخير الشعري جسّد و أنعش هذه التجريديات المتافيزقية, فكل مبدأ من المبادئ الأصلية الثلاثة اتحد مع الأخرى بصورة غامضة لا يمكن وصفها. لقد وُضع اللوغوس –العقل- تحت المفهوم الواسع لابن الأب الأبدي, الخالق و مدبر الكون. (6)
مع مرور الوقت, اختلطت الأفكار الغامضة و الاعتباطية عن المسيح مع لوغوسات-) جمع logos) – أفلاطون فاستحالا إلى صورة واحدة. هكذا وُلدت عقيدة التثليث التي ستُعتبر فيما بعد ”النصرانية الأرثودوكسية المُحافظة”.
الوثنيون يدخلون في الدين المحرف أفواجا.
لقد تقبّل الوثنيون المطّلعون على الفلسفة "البشارة الجديدة” قبولا حسنا اعتقادا منهم أن الحواريين و اليهود و الوثنيين الأفلاطونيين يؤمنون بعقائد هذه ”البشارة” كما يؤمنون بها هم. و يبدو أن هذا ما جذب العديد من الفلاسفة للدين النصراني و جعل النصارى الأوائل يكنون تقديرا خاصا لأفلاطون. (7).
أدى تبني كل فرد رأيا خاصا عمّا تعنيه عبارات أفلاطون إلى حدوث زلزال عظيم بين النصارى. كتب خيبون عن نصارى القرنين الثاني و الثالث ما يلي:
”الاسم المَهيب لإفلاطون استُعمل من طرف الأرثودوكس و الزنادقة كقاعدة مشتركة للدفاع عن الحق و عن الضلال.” (8)
سلسلة لا متناهية من التحريفات
لم يدع بولس قط إلى تأليه المسيح و لا إلى عقيدة التثليث. لكن طريقة تعبيره و التحولات التي جلبتها أفكار أفلاطون فتحت الباب على مصراعيه لهاتين البدعتين و عبّدت لهما الطريق ليُصبحا من أساسيات المذهب الرسمي للكنيسة الكاثوليكية الرومانية. إن ما فعله بولس مع تعاليم المسيح فعله آخرون مع تعاليمه هو نفسه. هذه السلسلة من التحريفات توِّجت بظهور عقائد أتاناسيو التثليثية التي اعتُمِدت كعقائد مقدّسة للنصرانية الرسمية الأرثودكسية خلال مجمع نيقية سنة 325م. مذهب أتاناسيو, الذي تشكّل تقريبا 100 سنة بعد مجمع نيقية, نُسب إلى الكاثوليكيين الرومان بكنيسة شمال إفريقيا:
¥