"قد يُفسّر هذا التعبير القوي بخطاب بولس (رسالة بولس الرسول الأولى إلى ثيموتاوس. الإصحاح الثالث. الآية 16.) (14) غير أن الأناجيل الحديثة تخدعنا. فالحرف O ( يعني "الذي") تحول في مدينة القسطنطينية في بداية القرن السادس إلى ‘’ theos ‘’ ( الرب): النص الصحيح, الذي لازال يظهر في الروايات اللاتينية و السورية, لا يزال موجودا سواء في فكر الآباء اليونانيين أو اللاتينيين. و هذا الغش, إلى جانب نص الشهود الثلاثة ليوحنا, كشفهما باقتدار السبر إسحاق نيوتن." (15).
لقد ظهرت عقيدة التجسد بشكل ضمني في الفصول الأولى لإنجيل يوحنا, لكن, كما يشير إلى ذلك الفاصل الزمني الكبير الذي كان ضروريا لبلورة هذه العقيدة, هذه الفصول تبقى بنفس الغموض الذي عليه العقيدة ذاتها. إن إنجيل يوحنا, المؤلَّف حوالي نصف قرن بعد وفاة بولس, قد كٌرِّس للفلسفة الأفلاطونية. لم يكتبه الحواري يوحنا, و هو إذن ليس تقريرا لشاهد عن حياة و تعاليم المسيح. و هو شديد الاختلاف عن الأناجيل الثلاثة الأخرى المحفوظة ذات الطابع الإجمالي, و أحيانا يتعارض معها. رغم ذلك, ادّعت الكنيسة الكاثوليكية أنه كلمة الرب التي أوحاها, و هو بذلك معصوم عن الخطأ. ثم إن هذا الإنجيل لا يحوي أيا من عبارات ”التثليث" أو ”التجسد”, لكن السلطة التي مُنحت للفكر الأفلاطوني دعّمت عقائد التثليث و التجسد, عقائد لم يدعو لها أبدا لا المسيح و لا حتى بولس.
في خضم هذا كله, ماذا حدث مع الناصريين؟
شكل الناصريون أغلب أتباع المسيح, و كان بينهم خواص حوارييه و تلامذته الأقربين. بعد رفع المسيح اجتذبت جماعته العديد من الناس و شكلوا جماعتين: واحدة في بيت المقدس تزعمها القديس يعقوب Santiago, و أخرى بأنتيوقيا تزعمها برنابي:
"بالنسبة لهم, كان ما علمهم المسيح هو الحقيقة, كل الحقيقة. لقد واصل برنابي و أتباعه الدعوة و تطبيق النصرانية التي تعلموها من المسيح نفسه". (16).
باتخاذهم المسيح قدوتهم, استمروا أوفياء لتعاليم موسى عليه السلام التي حافظ المسيح عليها: كانوا يقرون بتوحيد الله, يصلون في الكنس في الأوقات المكتوبة و يصومون كما صام المسيح. كانوا في كل سنة يخرجون العشر من ثرواتهم لصالح بيت مال مشترك و يوزعونه بعد ذلك بين أفراد طائفتهم. كانوا يحيون السبت, عيد القيامة و الأيام الحرم. كانوا يختتنون و يقدمون الأضاحي من الحيوانات التي أبيحت لهم و ذلك باسم خالقهم و على الوجه الذي شرعه موسى و المسيح. لقد كان المنهاج الكامل لسلوكهم موافقا لما جاء به النبيان. كان سلاحهم قوة شريعة موسى و النور الذي أهداهم المسيح, يعبدون الرب كما علمهم عيسى عليه السلام. قال جيبون عنهم:
" إن الأساقفة الخمسة عشر الأوائل كانوا كلهم يهودا مختنين, وجمعت الصلوات التي ترأسوها بين شريعة موسى و عقيدة المسيح" (17).
اضطهاد الناصريين في القدس
كان الرومان و الأمميون لا يميزون بين الناصريين و اليهود. و تزامن ذلك مع حملة اضطهاد عام ضد اليهود تُوِّجت بتدمير معبد سليمان سنة 70 ميلادية. لقد قُتِل أغلب السكان اليهود ببيت المقدس و شاطرهم العديد من الناصريين نفس المصير. أما الذين نجوا فقد استقروا في بلدة بيلا (طبقة فحل) شمال غرب الأردن.
لما تقلد أدريانو منصب الإمبراطور, أنشأ مدينة جديدة على جبل صهيون سمّيت إلياء كابيتولينا. و قد حُددت عقوبات صارمة للغاية و توعد بالعذاب الأليم أي يهودي يتجرأ على الاقتراب منها. يقول جيبون:
"لم يجد الناصريون إلا سبيلا واحدا للتحرر من هذا المنع. فاختاروا مرقس ليكون مطرانهم, و هو أسقف من العنصر الأممي, أغلب الظن أنه ينحدر من إيطاليا أو من إحدى الأقاليم اللاتينية. بإشارة منه تخلى الجزء الأكبر من الجماعة عن شريعة موسى التي احتفظوا بتعاليمها لأكثر من قرن. بواسطة هذه التضحية بالأعراف و الامتيازات استطاعوا الحصول على الإذن بالدخول إلى مستوطنة أدريانو و وطدوا بصورة قوية اتحادهم مع الكنيسة الكاثوليكية". (18).
أما الناصريون الذين رفضوا هذا التوافق فقد اتًّهموا بالضلال و الشقاق. فبقي بعضهم في بيلا (طبقة فحل) و انتقل آخرون إلى القرى المحيطة بدمشق, أما الأكثرية فقد استقرت في حلب السورية:
¥