تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

كان هذا التاريخُ الغابر، والحاضرُ الراهن، بكل ما يحفل به من صور العداء، يزيد في إحساس المستعمر الأوروبي بالغُربة والخَطَرِ. فكان التغريب – والتبشير فرع منه – هو الحل الذي اهتدى إليه، ونشطت أجهزتُهم في تنفيذه.

وبرامج التغريب تحاول أن تخدمَ هدفًا مزدوجًا، فهي تحرس مصالح الاستعمار، بتقريب الهُوَّة التي تفصل بينه وبين المسلمين؛ نتيجة لاختلاف القيم، ونتيجة للمرارة التي يحسها المسلم إزاء المحتلينَ لبلاده ممن يفرض عليه دينُه جهادَهم. وهي في الوقت نفسه تُضْعِفُ الرابطة الدينية التي تجمع المسلمين، وتفرّق جماعتهم التي كانت تلتقي على وحدة القيم الفكرية والثقافية، أو بتعبير أشمل: وحدة القيم الحضارية، فيستطيع الاستعمار أن ينفردَ بكل بلد على حدة، وأن يتفرغ لمواجهة ما عساه ينشأ من ثورات، وظهره آمن من ثورات المناطق الإسلامية الأُخْرى في مستعمراته، التي قد تهبّ لمساندتها.

وقد لاحظ كرومر وجود هذا الخلاف الشديد بين المسلمين وبين المستعمر الغربي، في العقائد، وفي القيم، وفي التقاليد والعادات، وفي اللغة، وفي الفن، وفي الموسيقى، وذلك في فصل طويل عقده في كتابه الذي ألَّفه عقب مُغادرته لمصر، بعد أن وضع أساس السياسة الإنجليزية وأشرف على تنفيذها، مُدَّة تقرب من ربع قرن. لاحظ كرومر في هذا الفصل أن هذه الخلافات هي السببُ في انعدام ثقة المسلم بالمستعمر الأوروبي وسوء ظنه به، وهي السبب في وجود هُوَّةٍ واسعة تفصل بينهما، وتجعل مهمة المستعمر محفوفة بالمتاعب. ودعا من أجل ذلك إلى العمل بمختلف الوسائل على بناء قنطرة فوق هذه الهُوة. وقد اتخذت هذه الوسائل طريقين: أحدهما هو تربية جيل من المصريين العصريين، الذين ينشؤون تنشئةً خاصة تقربهم من الأوروبيين ومن الإنجليز على وجه الخصوص، في طرائق السلوك والتفكير. ومن أجل ذلك أنشأ كرومر "كلية فكتوريا"، التي قصد بها تربية جيل من أبناء الحكَّام والزعماء والوجهاء في محيط إنجليزي؛ ليكونوا من بعد هم أدوات المستعمر الغربي في إدارة شؤون المسلمين؛ وليكونوا في الوقت نفسه على مضي الوقت أدواتِه في التقريب بين المسلمين وبين المستعمر الأوروبي، وفي نشر الحضارة الغربية. وقد أعرب اللورد لويد – الذي كان ممثلاً لبريطانيا في مصر، أو "مندوبا ساميًا" كما كان يسمى في ذلك الوقت – عن هذا الهدف، حين قال في خطبة ألقاها في كلية "فكتوريا" بالإسكندرية سنة 1936، عن طلبة هذا المعهد وخريجيه: (كل هؤلاء لا يمضي عليهم وقت طويل حتى يتشبعوا بوجهة النظر البريطانية، بفضل العشرة الوثيقة بين المعلمين والتلاميذ، فيصيروا قادرين على أن يفهموا أساليبَنا ويعطفوا عليها ... ومتى تَسَنَّى للجمهور أن يعرف هذه الكلية أكثر مما عرف عنها في الماضي، يتنبه الآباء إلى أن تعليم أولادهم فيها ينمّي فيهم من الشعور الإنكليزي ما يكون كافيًا لجعلهم صلةً للتفاهم بين الشرقي والغربي ... علينا أن نحل المشاكل المعلَّقة بين مصر وإنكلترا. ولا شكَّ أنَّه ستنشأُ مشاكل أخرى في السنوات القادمة من العَلاقات بين الاثنين. وهذه المشاكل تُحَلُّ، إذا تعلم كل من الإنجليز والمصريين أن ينظر إلى رأي الفريق الآخر نظرًا مقرونًا بالفهم والعطف).

كان الاستعمار الغربي ينتظر الوقت الذي يستطيع أن يستغنيَ فيه عن الجيش؛ ليعتمدَ في حراسة مصالحه على الصداقة، التي هي الهدف المقصود بكل مشاريعه في نشر الحضارة الغربية.

أما الوسيلة الأخرى التي اتخذها الاستعمار لإيجاد هذا التفاهم المفقود، وعمل على تنفيذها، فهي أبطأ ثمارًا من الوسيلة الأولى، ولكنها أبقى آثارًا، كما لاحظ اللورد لويد. وهي تتلخص في تطوير الإسلام نفسه وإعادة تفسيره، بحيث يبدو مُتَّفِقًا مع الحضارة الغربية، أو قريبًا منها وغير متعارضٍ معها على الأقل، بدل أن يبدو عدوًّا لها أو معارضًا لقيمها وأساليبها.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير