تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وخطة الاستعمار والصِّهْيَوْنِيَّة العالمية في ذلك كانت تقوم – ولا تزال – على السيطرة على أجهزة النشر التي نسمّيها الآن: (الإعلام)، وإلقاء الأضواء من طريقها على كتَّاب ومفكرين من نوع خاص، يُبْنَوْن ويُنَشَّؤُون بالطريقة التي يُبْنَى بها نجومُ التمثيل والرقص والغناء، بالمُداومة على الإعلان عنهم، والإشادة بهم، وإسباغ الألقاب عليهم، ونشر أخبارهم وصورهم. وذلك في الوقت الذي يُهْمَلُ فيه الكتَّاب والمفكرون الذين يصوّرون وجهات النظر المعارضة، أو تُشَوَّهُ آراؤهم وتُسَفَّهُ، ويُشَهَّرُ بهم. ثم هي تقوم على تَكْرار آرائهم آنًا بعد آنٍ لا يملون من التَّكرار؛ لأنهم يعلمون أنهم يخاطبون في كل مرَّة جيلاً جديدًا، أو هم يخاطبون الجيل نفسه، فيتعهدون بالسقي البذورَ التي ألقَوْهَا من قبل.

ونحن حين ندعو إلى إعادة النظر في تقويم الرجال، لا نريدُ أن نَنْقُصَ من قَدْرِ أحد، ولكننا لا نريد أن تَقُومَ في مجتَمَعِنا أصنامٌ جديدةٌ معبودةٌ لأناس يزعم الزاعمون أنهم معصومون من كل خطأ، وأن أعمالهم كلها حسنات لا تقبل القدح والنقد، حتى إنَّ المخدوع بهم، والمتعصّبَ لهم، والمُرَوِّجَ لآرائهم ليهيج ويموج إذا وصف أحد الناس إمامًا من أئمتهم بالخطأ في رأي من آرائه، في الوقت الذي لا يهيجون فيه ولا يموجون حين يوصف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما لا يَقبلُونَ أن يُوصفَ به زعماؤهم المعصومون. فيَقْبَلُون أن يُوصَم سيف الإسلام خالِدُ بنُ الوليد بأنه قَتَلَ مالك بن نويرة في حرب الردة طمعًا في زوجتِه، ويُردِّدُون ما شاع حول ذلك من أكاذيب. ويقبلون أن يلطخ تاريخ ذي النورينِ عثمان بن عفان بما ألصقه به ابن سبأ اليهودي من تُهَم. ويقبلون ما يروي الأصبهاني في كتاب "الأغاني" في سُكَيْنة بنت سيد شباب أهل الجنة الحسين من أخبار اللهو والمجون. ويُردِّدُون ما يُذاع من أخبار هارون الرشيد الذي كان يحج عامًا ويغزو عامًا ثم أصبح في أوهام أبناء هذا الجيل رمْزًا للخلاعةِ والترف؛ بل كاد يصبح رمزًا للإسراف في طلب الشهوات، وصورةً من أبطال (ألف ليلة وليلة). يَقْبَلُونَ ذلك كله، ثم يرفضون أن يمس أحد أصنامهم بما هو أيسر منه. ويحتمون بحرية الرأي في كل ما يخالفون به إجماع المسلمين، ويَأْبَوْنَ على مخالفيهم في الرأي هذه الحرية. يُخَطِّئُون كبار المجتهدين من أئمة المسلمين، ويُجَرِّحُونَهم بالظنون والأوهام، ويثورون لتَخْطِيء ساداتهم أو تجريحهم بالحقائق الدامغة.

أما الأمر الآخر الذي أحب أن ألفتَ النظر إلى خُطُورته، فهو تطوير الإسلام؛ لكي يوافق الأمر الواقع في حياتنا العصرية. وقد بدأ هذا الاتجاه؛ كما رأينا في أول الأمر بإحساس الحاجة إلى مواجهة الأقضية الجديدة باستنباط أحكام شرعية تُوافِقُها، ورأَيْنا صدى ذلك فيما كتبه الطهطاوي، وخيرالدين التونسي. فكتب الطهطاوي في "مناهج الألباب" عن (اقتضاء الأحكام والمُعامَلات العصرية تنقيحَ الأقضية والأحكام الشرعية بما يوافق مزاج العصر بدون شذوذ)، مقترحًا وضع مدوَّنة قانونية عصرية شاملة. ودعا خيرالدين إلى الاجتهاد في أضيق الحدود، بإعادة النظر في الأحكام المترتبة على العادات إذا تغيَّرت، وردَّ على منِ احتجَّ بأنه لا يحق لنا (إحداث شرع جديد لعدم أهليتنا للاجتهاد) بأن هذا (ليس بتجديد اجتهاد من المقلدين؛ بل هو قاعدة اجتهد فيها العلماء، وأجمعوا عليها).

كانتِ الدعوة إلى الاجتهاد في هذا الطور مقتصدة غاية الاقتصاد، تدعو إليه في أضيق الحدود، ولا تنكر التقليد؛ بل هي تسلم به، وتسلم بأن أهل هذا العصر ليسوا أَكْفَاء للاجتهاد. ومن كان منهم قادرًا على الاجتهاد لا يطمحُ إلى أكثر من الاجتهاد في حدود مذهب من المذاهب الأربعة، لا يتجاوزه إلى الاجتهاد المطلق، الذي يسمو فيه بنفسه إلى مرتبة الأئمة الأربعة، ومن في طبقتهم من المجتهدينَ الأولينَ.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير