تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ثم إنَّ الدعوةَ أصبحت من بعدُ على يد محمد عبده ومدرسته ولا سيما رشيد رضا، دعوةً عامَّة تهاجم التقليد، وتطالب بإعادة النظر في التشريع الإسلامي كله دون قيد. فانفتح الباب على مصراعَيْهِ للقادرينَ ولغير القادرينَ، ولأصحاب الورع ولأصحاب الأهواء، حتى ظهرت الفتاوى التي تبيح الإفطار لأدني عذر؛ توسعًا في قوله - تعالى -: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184]، واستنادًا إلى إباحته في غزوة الفتح. وظهرت الفتاوى التي تبيحُ المعاملات التي تقوم على الربح، وتقسم الربا إلى: ربًا ظاهر وهو ربا النسيئة، الذين يتضاعف فيه الدَّيْنِ أضعافًا مضاعفة؛ وربًا خفي وهو ربا الفضل، ولا تحرِّم إلا ربا النسيئة، أو تحرِّم الربا في أصناف معينة "الخلافة 98، يسر الإسلام 58". وظهرت الفتاوى التي تحظُر تعدّد الزوجات، وتحظر الطلاق، وتُجِيزُ تدخل القضاء فيهما. وظهرت الآراء التي تجعل الإسلام داخلاً في هذا المذهب، أو ذاك من المذاهب السياسية والاجتماعية التي ابتدعتها الحضارة الغربية الحديثة. وبذلك تحوَّل الاجتهاد في آخِر الأمر إلى تطوير للشريعة الإسلامية يهدفُ إلى مطابقة الحضارة الغربية، أو الاقتراب منها إلى أقصى ما تسمح به النصوص من تأويل على أقل تقدير.

الاجتهاد في الشريعة حق لكل عالم قادر عليه، ومن القدرة عليه أن يُلِمَّ بكل ما قيل في المسألة التي يبحثها؛ لأنه لا يدري إن فاته بعضها أن يكون هذا الذي فاته سببًا في عدوله عن رأيه لو اطلع عليه؛ لأن فيه من الحقائق ما غاب عنه ولم يدخل في تقديره. وشأن الاجتهاد الديني في ذلك هو شأن الاجتهاد في أيّ فرع من فروع المعارف والفنون. فليس يباحُ للطبيب أن يجتهد حتى يبلغ من الإلمام بالطب حدًّا يَعترفُ له عنده أصحاب هذا العلم بالقُدرة على الاجتهاد فيه. وليس يُقْبَل من المهندس أن يطلع على الناس في الهندسة برأي جديد حتى يثبت عند علماء الهندسة أنه قادر على الابتكارِ. بل لا يُقْبَل من رجال القانون الوضعي الذي أخذناه من الغرب في كل فروعه أن يجتهدوا فيه حتى يبلغوا درجة من الحِذْق، يسلم لهم معها بالقُدرة على التشريع. والمهندسون والأطباء والقانونيون بعد ذلك في معظمهم مُقَلِّدُون، يكتفون بتطبيق ما ابتكره المجتهدون في الطب والهندسة والقانون، ولا يزيد اجتهادهم فيها عن الحِذْق والكياسة في تطبيق القواعد النظرية على الوقائع العملية. فالاجتهاد إذن لم يغلق بابه، ولكن المسلمين أحسوا في العصور المتأخرة من أنفسهم عدم القدرة عليه، وأحسوا أن أصول المسائل وفروعها في مختلف احتمالاتها قد فُصِّلَتْ تفصيلاً.

على أنَّ الاجتهادَ في حال افتتاننا بالحضارة الغربية خطرٌ غير مأمون العواقب، يخشى معه أن يتحوَّل من حيث يدري المجتهد – إن وجد – ومن حيث لا يدري، إلى تسويغ للقيم الأجنبية التي هو مُعْجَبٌ بها، فإذا لم يكن معجبًا بها فالمجتمع الذي هو معجبٌ بها لا يقبل اجتهاده، بل لا تزال تتناوله ألسن السفهاء من جُهَّالِه، الذين يتصدَّون لإبداء الرأي فيما يعرفون وفيما يجهلون، حتى يفقدَ ثقته في نفسه ويعتَبِر به غيرُه، فيفتي حين يُستفتَى وعينُه على الذين يفتيهم، يريد أن يرضِيَهم، وأن يظفر بتقديرهم وتقريظهم، فيجور على الحق إرضاءً للخلق، ويذهل عما عند الله تَعَجُّلاً لما عند الناس. ومع ذلك كله، فالاجتهاد الذي يحترم النصوص الشرعية ويبحثها في حَيْدَةٍ ونزاهة شيء، والتطوير الذي يهدف إلى تسويغ قيم الحضارة الغربية شيء آخر. الاجتهاد الذي يتمسك بمبادئ الإسلام يُقَوِّمُ بها عوج الحياة شيء، والتطوير الذي ينزل على الأمر الواقع، ويسوغ عوج الحياة بنصوص الشريعة شيء آخر. نقطة البدء في اجتهاد المجتهد هي هذا السؤال: هل يصح هذا الأمر شرعًا أو لا يصحُّ؟ أو: ما حُكْمُ الإسلام في هذا الأمر؟ ونقطة البدء في تطوير المطوِّر هي: ما النصوص الشرعية التي تُثْبِتُ صحة هذا الأمر؟ أو: ما النصوص الشرعية التي تُثْبِتُ حرمة هذا الأمر؟

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير