تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وخطر التطوير على الإسلام وعلى المجتمع الإسلامي يأتي من وجهينِ: فهو إفساد للإسلام يشوش قيمَهُ، ومفاهيمَهُ الأصلية بإدخال الزَّيْف على الصحيح، ويُثَبِّتُ الغريب الدخيل، ويُؤَكِّدُه، فبعد أن كان الناس يشاركون في تصاريف الحياة، وهم يعرفون أنَّ هذا الذي غُلِبُوا على أمرهم فيه ليس من الإسلامِ، والأمل قائمٌ في أن تَجِيءَ من بعدُ نهضةٌ صحيحة ترد الأمور إلى نِصَابِها عند الإمكان، يصبح الناس وهم يعتقدونَ أن ما يفعلونه هو الإسلام. فإذا جاءَهم مِنْ بعدُ مَنْ يريدُ أن يرُدَّهم إلى الإسلام الصحيح أنكروا عليه ما يقول، واتَّهموه بالجُمود والتمَسُّك بظاهر النصوص دون روحها.

وتَقْلِيدُ المَغْلُوبِ لِلغالب مرحلةٌ طبيعية طارئة تزول مع زوال الضعف. واختلاط الحق بالباطل والنافع بالضار في هذه المرحلة أمرٌ طبيعي كذلك. وهو مرحلة من مراحل التطور الصحيح، تَجيء بعدها التصفية والتمحيص عندما تزول غواشي الضعف والخمول. فإذا سَوَّغْنَا ذلك الغريب الدخيل – خيره وشره – تَسْويغًا إسلاميًّا في حال الضعف والعجز، فقد أَصَّلْنَاهُ من ناحية، وقد أقْحَمْنَا على الإسلام ما يُفْسِدُ بِنْيَتَه من ناحية أخرى؛ لأنه يُصْبِحُ أخْلاطًا من عناصرَ شَتَّى لا تجمعُها رابطة، ولا يَضُمُّها نظام، ولا يشبِهُ بعضها بعضًا. فهذا هو أحد الوجهَينِ في ضرر التطوير، وهو وجه لا يعني إلا المسلمين.

أمَّا الوجهُ الآخر لضرر التطوير – وهو الذي يعني أعداء الإسلام – فهو أن هذا التطوير ينتهي بالمسلمين إلى الفُرقَة التي لا اجتماع بعدها؛ لأن كل جماعة منهم سوف تذهب في التطوير مذهبًا يخالِفُ غيرها من الجماعات. ومع توالي الأيام، نجد إسلامًا تركيًّا، وإسلامًا هنديًّا، وإسلامًا إيرانيًّا، وإسلامًا عربيًّا؛ بل ربما وجدنا في داخل هذا الإسلام العربي ألوانًا إقليمية تختلف باختلاف البلاد. بل لقد سمعنا مُنْذُ الآنَ أحد المنتسبينَ إلى الإسلام من الهنود يتحدث في (مؤتمر برنستون للثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة) سنة 1953 عن الإسلام الهندي الحديث (ص 78، 81). وسمعنا "سمث" يروي عن أحد المسؤولينَ من التُّرْك في كتابه ( Islam In Modern History) كلامًا يتحدث فيه عن إسلام تُركيّ خاص (ص 193).

وبعد فلنعد إلى استئناف الحديث من حيث قطعناه في الفصل السابق. ولنتابع أحداث القصة التي وصلنا معها إلى نهاية الجيل الأول. جيل الطهطاوي، وخيرالدين، والتنظيمات، وإلى أول المرحلة الثانية التي بدأت مع الاستعمار.

برز في مطلع هذه المرحلة الثانية التي نتناوَلُها الآن بالكلام رجلٌ غريب الأطوار، يحيط سيرتَهُ وأهدافَه كثيرٌ من الغموض، الذي لم تكشفِ الأيَّامُ حقيقَتَهُ بعدُ. وقد ترك هذا الرجل الغريب أثرًا عميقًا في توجيه الفكر الإسلامي والأحداثِ السياسيَّة، في هذه الفترة وفيما تلاها. ولا يزال أثره باقيًا ومِيسَمُه واضحًا حتى الآن. ذلك هو جمال الدين الأفغاني، كما هو مشهور عند الناس، أو (المُتَأَفْغِن) كما كان يسميه أبو الهدى الصيادي، أو الإيراني كما هي الحقيقة في واقع الأمر.

وإذا ذكر اسم الأفغاني الذي يمثل تمثيلاً قويًّا ذلك التيار الثاني الذي أشرنا إليه – وهو التغريب – فلا بد أن يذكر معه خليفته في هذا الميدان وأبرز تلاميذه، الذي طبق مذهبه، وعمل على تدعيمه ونشره وهو محمد عبده، الذي لا يكاد يذكره أتباعه المتعصبون له إلا مقرونًا بلقب "الإمام".

والحديث عن الأفغانيّ ومحمد عبده طويل يحتاج إلى فُسْحة من الوقت. لذلك فضلت أن أُفْردهما بحديث خاص، وأن أتخطَّاهُما الآنَ إلى الكلام عن التيار الثالث الذي يتمثَّل في جماعة من نصارى العرب، الذين كانوا يشجِّعون الاتجاهات العِلْمانيَّة التحرُّريَّة، وهو تيار لم يؤثر تأثيرًا مباشرًا في الفكر الإسلامي؛ لأنه كان – بحكم ظروف أصحابه – لا يعرض له بخير أو بشر، لا يؤيده ولا يعارضه. وكل ما في الأمر أنه كان يدعو إلى ما كان يسمى عند أصحابه بالفكر الحر. لا يحدد موقف الدين من الموضوعات العلمية والحضارية التي يتكلم فيها ولا يبالي به. وهذه هي العلمانية التي تقوم عليها حضارة الغرب في صميمِها. ولم يكن هذا الفريق من نصارى العرب، ومن نصارى الشاميين على وجه الخصوص وحدَهُ في هذا الميدان. فقد كان يشاركه في الدعوة إلى الفكر الحر الذي لا يتقيد

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير