وهو من شيوخ العلامة شمس الدين الأفغاني رحمه الله، أفدنا منه نحو أربع سنين وبه تخرجنا، فكان لنا بين الشيوخ كالوالد وبقيتهم كالأعمام حاشا شيخنا أبا محمد عزام رحمه الله تعالى، وكان رحمه الله حاد الذهن، سريع البديهة، حاضر الجواب، صاحب دعابة وطرفة، مهيباً وقوراً، واسع الاطلاع، جيد الحفظ، كثير الاستحضار لشواهد الشعر، لا ينفق شيئاً من وقته في غير المطالعة والدرس، ويقول لنا: (لا أتصور حياتي من غير مطالعة وكتب، وما أعلم يوماً وضعت فيه الكتاب من يدي قبل منتصف الليل)، وله مكتبة تبلغ نحو عشرة آلاف مجلد لم يزل عاكفاً على الإفادة منها إلى وفاته رحمه الله، وكثيراً ما كان يتحفنا في الدرس بغرر النقول وفرائد الفوائد، وكان يتحسر على قضاء وقته في تدريس العجم من الطلاب ويقول: (لا ينتفعون بي كما ينبغي)، أوصانا غير مرة بتدريس ما نقرؤه عليه من الكتب، مع مطالعة كتب أخرى في الفن نفسه، فبذلك يتمكن الطالب من العلم وتتسع مداركه.
وهذا قيد بما قرأته عليه رحمه الله:
1 - علم أصول التفسير من إملاءه في مجالس عدة.
2 - تفسير الفاتحة وجزء من سورة البقرة في نحو شهرين، وله طريقة في التفسير كثيرة الفوائد لكنها مطولة جدا، حدثنا أنه ختم بها تفسير القرآن في مدة أربع سنين لخمس ساعات يومياً!
3 - الورقات في أصول الفقه بشرح شيخنا رحمه الله.
4 - (روضة الناظر وجنة المناظر) في أصول الفقه لابن قدامة رحمه الله، وأملى علينا فيها كثيراً من الفوائد رحمه الله.
5 - متن الدرر البهية في الفقه للشوكاني رحمه الله بشرح شيخنا.
6 - متن الرحبية وشرحها في علم الفرائض وضبطها قراءةً واعراباً على الشيخ.
7 - الرسالة الحموية لشيخ الإسلام ابن تيمية.
8 - الرسالة التدمرية له أيضاً وكلها في إثبات اعتقاد أهل السنة.
9 - ألفية ابن مالك بشرح ابن عقيل، وقرأت في المدة نفسها أو قريباً منها قطعة نحو النصف من كتاب (قطر الندى وبل الصدى) لابن هشام على بعض الأساتذة.
وكنت مدة القراءة على شيخنا ولله الحمد عاكفاً على مطالعة كتب رديفة لما نقرأه عليه من الفنون، وجعلت لبعض الفنون منها كناشةً أقيد فيها خلاصة مباحث الفن وأضيف إليها شوارد الفوائد المرة بعد الأخرى، كما صنعت في علمي الأصول ومصطلح الحديث، حتى اجتمع من الفوائد في كل منهما ما يجيئ في مجلد حافل ولله الحمد، فطالعت في مدة القراءة في الورقات والروضة أصولَ خلاف وزيدان ومذكرةَ الشنقيطي وشرحَ المحلي للورقات وإرشادَ الفحول للشوكاني مطالعة تامة، ولخصت جميع مباحثها أو أكثرها ولله الفضل وحده سبحانه.
وقد أجازني شيخنا رحمه الله دراسة وتدريسا وكتب لي إجازة بيده الكريمة جعلها الله تعالى في ميزان حسناته ورفع بها درجته إنه تعالى بر رؤوف رحيم.
وبعد أن وقعت المحنة بهذه الحرب الصليبية حاولت الرحلة إليه للاغتراف من معين فضله، وعقدت العزم على قراءة المحلى لابن حزم رحمه الله بتمامه عليه، بعد أن منّ الله تعالى بقراءة الكتاب وتقييد فوائده، لكن حال بيني وبينه عوارض الأيام وسهام المحنة حتى أتاه اليقين ورحل عن هذه الدنيا الدنية إلى سعة الله ورحمته، فرحمه الله ورضي عنه ولعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا.
ولما عزمت على الرحلة إليه رأيت فيما يرى النائم أنني أقف وإياه إلى جدار قصير في قرية من القرى، وفي يده صحفة من الحلوى، فوضعها بين يدي على الجدار، ثم قال لي: بقيت أربع سنين! وانصرف عني، فوقع في نفسي أنه الأجل، لكنني كنت أدافعه عن خاطري طمعاً في لقائه رحمه الله، وصدقت الرؤيا والله، ومات الشيخ رحمه الله لأربع سنوات مضين منها وأبقى في القلب لوعةً وحسرةً ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وحرّرتُ كتاباً بعثت به إليه وصله قبل وفاته بنحو عامين ضمنته نظم قصيدة أتشوق بها إليه، وأستفتيه في جملة من المسائل، وهو كتاب مطول أذكره في (الشموخ في فوائد وأسانيد الشيوخ) إن شاء الله تعالى، وهذه أبيات من مطلع القصيدة:
إلى المقدام ذي القِدْحِ المُعَلّى سميِّ البدر إنْ بدرٌ تجلّى
إلى شيخي الجليلِ أبي المعالي إلى من جاوزَ العلياء فضلا
سلام الله أبعثه إليكم وبالبركات بالدعوات تُتْلى
وبالأشواق تحدوها الأماني إلى لقياكمُ أهلاً وسهلا
تذكرني عهوداً خالياتٍ شربنا صَفْوَهُنّ الشهدَ نهْلا
¥