تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

رجل ماعاش لنفسه أبدا، أنفق وقته بل عمره كله في خدمة الناس وقضاء حاجاتهم ونشر الهدي بينهم وحمل لواء السلف الصالح، لم يجزع على شيء فاته من الدنيا أبدا، عاش مطمئن البال مرتاح الضمير لم يستهوه جر العباءات ولا مداهنة الكبار ولا مزاحمة أرباب الدنيا ولا التصدر في المجالس ولا التربع فوق منابر الإعلام. رجل عرف مايريد وكأنه يرمق كل يوم جنة الرحمن ويراها بأم عينه فيغذ السير لها غير آبه بلعاعات الدنيا وحظوظها الزائلة الفانية. كان يدرك أن الدنيا ليست بدار مقر وليست لحي سكنا فأعرض عنها فجاءته راغمة جاثمة. يالله كم لهذا الرجل من مكانة عظيمة في قلوب الناس تعدل كل حظوظ الدنيا وقناطيرها المقنطرة من الذهب والفضة والأنعام والحرث.

هو زاهد بكل المقاييس لاشك في ذلك وليس حديث العاطفة التي فرضها الموقف بل هو سيد الزاهدين وسيد العلماء الربانيين وبقية السلف وملك البساطة التي لاتكلف فيها. أحبه الناس فبادلهم حبا بحب ومودة بمودة وقربا بقرب.

كم سمعنا صوته إذا اجتاحت المسلمين جائحة، كم سمعنا صوته يوم أن خفتت أصوات، لم تكن حسابات ابن جبرين لتنطبق على كثير من أهل الدنيا فكانت جراحاته تتكلم قبل لسانه وكانت مواجعه تئن قبل يراعه، كان ينطق بالحق ويجاهر به ويتقطع ألما على إخوته في طول الدنيا وعرضها، لايجامل في الحق ولا يداهن. ترك الجامعة وهو الجامعة وترك الافتاء وهو الإفتاء. لم يقدم اعتذارا ولم يدخل على ولي الأمر ولم يبرر مواقفه بل مضى في طريقه وعينه ترمق شيئا لانراه وقلبه يحثه على السير وهمته تفوق الهمم وعزيمته تناطح الجبال.

كانت نفسه تشرئب للنعيم المقيم، النعيم السرمدي الأبدي، النعيم الذي لاينفد والصحبة التي لاتمل والكوثر ورؤية الله عز وجل، فتصرمت آماله من الدنيا وقطع حبال ودها وسار مؤمنا موقنا واثقا عازما متطلعا متحفزا مشتاقا فكان في جيل الكبار، كان عملاقا وسط غابة من الأقزام ينظر إلى تهافت الناس على الدنيا فيعجب من هفواتهم وسقطاتهم وعثراتهم. هذا العملاق السلفي الفذ ماانتصر لنفسه قط إلا أن تنتهك محارم الله، كان يذكر مشائخه الذين سبقوه إلى الدار الآخرة فتدمع عينه ويبكي قلبه فيترحم عليهم ويذكر شمائلهم ويدعو لهم. كان ابن جبرين بسيطا يبهرك في بساطته وسماحته فهو السماحة والفضيلة والطهارة والنبل، كان لايمتنع من دعوة آحاد الناس، مضى سحابة عمره معلما وموجها وواعظا ومذكرا حتى ثنى الرجال عنده الركب وتزاحمت العقول لتهل من نبعه الفياض المتدفق.

هنيئا لك والدي هذا الحب الذي لامثيل له في دنيانا، هنيئا لك هذا القبول بين الناس، هنيئا لك هذه الجموع التي احتشدت منذ الصباح الباكر لتلقي نظرة الوداع الأخير على معلم الناس الخير. ماأحبك الناس لمنصب ولا لجاه أو مال بل كان حبا خالصا من القلب للقلب، حبا في الله ولله.

وهاأنذا أسطر بعضا بل نزرا يسيرا من حياة الشيخ وأختزلها في كلمات بسيطة ولو استطردت لاحتجت إلى مجلدات، حياة مباركة امتدت أكثر من سبعة عقود من الزمان ماكل فيها الشيخ ولامل يتنقل في كل مكان وينشر ويعلم ويوجه ويصبر ويحتسب، حياة لايطيقها من آثر الراحة، ولايطيقها من خبت به همته، ولايطيقها من تعلق قلبه بالدنيا، ولايطيقها من تكبر وتجبر، كان يذهب إلى الناس ولاينتظر قدومهم، يبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويوقد في القلوب مواعظا وفي العقول علما راسخا.

ابن جبرين أمة في رجل وفقده طامة من الطوام ومصيبة من المصائب فالعلماء ورثة الأنبياء وبموتهم يقبض العلم، والشيخ من الجيل الرائد الذي عاصر الدعوة في زمن الشيخ العلامة مفتي الديار السعودية محمد ابن ابراهيم رحمه الله فكان رائدا من روادها، وبرحيله فقدنا ركنا ركينا وعلما عظيما وسيرة عطرة وحكمة وقادة ومربيا فاضلا ونفسا سامقة. رحل وكلنا راحل ومضى وكلنا ماض وغادر وكلنا مغادر وودع وكلنا مودع وبلّغ وقل فينا من بلغ وعلّم وقل فينا من علم ونصح وقل فينا من نصح وأعرض عنها وكلنا أقبلنا عليها وصدها واحتضناها وردها وقبلناها وحلق وهبطنا وشد المئزر وأرخينا وذكر الله ونسينا أو تناسينا ولزم الغرز وتركنا وسار على المحجة وتباطأنا.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير