عقد من الزمن والجراح تنزف!
لجينيات
عندما نقرأ في سير السلف الصالح وفي سير العلماء يمتلك قلوبنا بعض الحزن عندما نقرأ أنَّ عالماً من العلماء توفي وبعده بسبع سنين توفي العالم الآخر وبعده بسنة توفي الثالث .. وهكذا فيصبح العقد حزيناً ويذكره أهل التأريخ من باب الأحزان التي لحقت بتلك الحقبة!
لن أسير هنا كما سار المؤرخون ولا غيرهم! بل سأذكر حديثاً كنت أكتمه في النفس! هذا العقد الذي لم نفقد فيه العلماء فحسب بل حتى البلاد ومنارات الإسلام فقدناها فلله الأمر من قبل ومن بعد!
قبل عشر سنين في يوم الخميس السابع والعشري من شهر محرم ذهبت إلى صلاة الظهر وبعدما سلم الإمام من الصلاة رأيت من تقدم إلى الإمام ليهمس في أذنه فخرجت قبل أن ينتهي ودخلت على والدتي وقلت: الحمد لله ابن باز دخل المستشفى وخرج منه اليوم! فقالت لي والحزن يلفها (رح عني ابن باز يطلبك الحل) وكأنها صفعتني بقوة فقد كنت أرى آثار الحزن بادية على محياها , وإذا الخبر يُعلن فعلمت أن همس ذاك الرجل لذلك الإمام إنما هو الخبر المحزن!!
بكيت كثيراً فقد كنت أحب هذا الشيخ وأحب صوته , أجد راحة إيمانية عندما أسمع حديثه فهل كان ذلك بسبب إخلاصه أم بسبب حبي لكبار السن؟!!
مضت الأيام وإذا بنا نتسامع بمرض ابن عثيمين والجدل الحاصل في مسألة قبوله السفر للعلاج وهل سيكون كابن باز في رفضه فقد مات رحمه الله ولم يخرج من هذه البلاد! بل أحد مواقفه أنه مرض مرضاً شديداً وحُدد موعد لإجراء العملية فقام في الليل يصلي وسأل الله أن يصرف عنه ما به! فقام ما به من بأس وطلب أن يخرج من المستشفى وبعد الفحوصات تبين أن ما به قد زال!! والعجيب أنه بعد خروجه ذكر أنه تكرر معه مثل هذا الداء والله سبحانه يصرفه عنه!
انتقل ابن عثيمين إلى رحمة الله وكان قبله محدث العصر الألباني رحمه الله تعالى ولازالت العقد يحمل لنا العديد من الأحزان!
وفي نهاية العقد أتم علينا الحزن بفقد اثنين من فحول العلم! من كانت سيرتهم لوحدها مثار إعجاب فكيف بعلومهم؟!
جلد وصبر مع ما عانوه من المرض //
أولهما درة العلماء بكر بن عبدالله أبو زيد ويكيفه أن اسمه بكر!
والله أجد لنطق اسمه لذة!!
بلاغة الكلمة وجودة التصنيف وسحر الأخلاق ودقة التنظيم وشغف بالعلم عجيب!
كل من يكتب ينظر المرء قبل أن يقتني كتبه هل يصلح له أم هو في غنى عنه! أما ما كتبه بكر فالتفكير فيه الشراء نوع من التسويف!
رحل هذا الإمام الذي أعادنا لأيام السلف ورع وزهد ورسوخ علم ومراقبة لله وهضم لحقوق النفس!
وما كادت العين أن تُوقف دموعها حتى فجَّر فيها ما ألم بزينة العلماء عبدالله بن جبرين!
وإذا ذكرت ابن جبرين فعن أي شيء سأتحدث؟!
إن أقل ما فيه أنه مدرسة في كل شيء! في الخلق , في العلم , في القوة , في الجلد والصبر .. في كل شيء!
كم كنت أتمنى لو حضرت جنازته لولا ظروف العمل , وكم أدرك قلبي من الحزن حين علم بالخبر!
والله لا زلت أرى صورته وأسمع صوته وأقول أحقا مات؟!!
هذا الرجل بل الجبل؛ أحاول أن أتجلد قدر ما استطيع وخصوصاً أني فجعت لوفاته فلم تكن لي على بال؛ ولاسيما أن الشيخ تتابع حالته من أعلى المستويات ومع أن الله قد امتن عليَّ ورزقني صبراً في النائبات إلا أنني شهقت شهقة ما خرجت مني منذ ولدت .. فاجعة وربي //
هذا الشيخ الذي أكرمني بتقبيل رأسه حين كان يصد الناس ويدفعهم .. هذا الشيخ الذي جلست بجوار قدميه أتعجب من جلده وقوته .. بل أدركني النعاس وهو من درس إلى درس ويجيب حتى يشار إلى من يقرأ الأسئلة أن توقف! هذا الرجل الذي كان يعجبني فيه بدايته للدرس فبصوته الذي يميزه يبدأ بقوله بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. لم يسبقه إليها أحد فيما أعلم!
هذا الرجل الذي اسأل الله أن يمد في عمري لأرد له حقاً لا يعلمه إلا الله ...
هذا الرجل الذي تعجز حتى من السير معه فهو سريع الخطى .. !
هذا الشيخ الذي تجد روعة الابتسامة في محياه عندما يضحك! يا إلهي لا أستطيع وصف سروري عندما أراه يبتسم!!
هذا الشيخ وحركة يده عندما يحركها على الطاولة .. يا لها من حركة!!
هذا وصوته العذب حقاً عندما يقرأ أبياتا من الشعر أو نصاً من المقامات أو أي عبارة يسردها الشيخ بنفس واحد!!
¥