وذكرني هذا المشهد بأسئلة مشابهة كنت أطرحها مع بعض الرفاق استفسارا عن حشود رأيناها في وسط مدينة باريس قبل بضعة أشهر! فكان الجواب هناك: إنها مظاهرات رسمية، أي مرخّصة وفق قانون المظاهرات!
ولكن وجدتني أردد في نفسي: إن هذه مظاهر تعبدية .. لا مظاهرات سياسية .. وشتّان بينهما .. ومن ثم فلا تحتاج لإذن لتكون رسمية! بل قد أعدت الجهات الرسمية عدتها في التنظيم والتسيير، منعا للاختناقات المرورية، ولا سيما في جو ساخن بسخونة صيف الرياض! وإن كان الله قد أنعم علينا حينها بهواء يبدد شيئا من سكون الحرارة ..
وسرت حتى انحنى الطريق، فتبيّن الجامع للناظر من بين المباني، وكانت المفاجأة أن جميع الأبواب الجانبية الجنوبية للجامع مغلقة، ما عدا الباب الأخير الذي يُدخَل منه على الساحة المكشوفة في المسجد، وإذا النّاس يتدافعون فيه دخولا، في مشهد ذكرني اندفاع الناس إلى الحرم المكي بعد الأذان من باب الفتح أو باب الملك عبد العزيز رحمه الله! ومن شهد ما شهدت يعلم أني لم أبالغ كما قد يظن بعض من لم ير المشهد!
ورأيت بعض الناس يخرجون من ذات الباب الكبير، ومن بينهم شيخ كبير يتكئ إلى عصاه، ويردد: يقولون ما فيه محل إلا في الشمس!
ومن عادتي في الزحام، أني لا أستمع إلى الناس، حتى أرى .. وما إن تخللنا من الباب حتى رأينا جميع المواقع التي لها نصيب من الظل قد امتلأت! وبقيت الساحة المكشوفة محل تردد من بعض الواقفين، لشدة الشمس وطول الوقت المتبقي! وهنا جاء فرج عاجل، بتقدم بعض الصفوف التي تلي صف الحرس الرسمي داخل المسجد، نتيجة تضييق الحرس لدائرة الحراسة، كما هو معتاد في مثل هذه الأحوال .. فدخلنا في الجزء المسقوف من الجامع، وانتظرنا الصلاة ..
وقد ضجر أحد المصلين أمامي فرجع إلى الصف الذي أنا فيها، وهو يردد: الناس يحملون أحذيتهم في المسجد!! - وكأنه لم يتحمل حمل الناس لأحذيتهم - .. قلت له: يا عم! الأمر كما ترى، هذه زحام والناس تريد أن تدرك المقبرة أيضا .. فسكن وبدأ يتلو من سورة الكهف في انتظار الصلاة حتى ختمها! فخلته قد وهم في ظل الزحام أنَّ اليوم يوم جمعة! ونسي أن اليوم يوم ثلاثاء!!
وقد اتصل علي بعض الإخوة وأنا في المسجد، يسألون عن إمكانية الصلاة داخل المسجد، وكان منهم أخي يعقوب وبصحبته أخي أحمد، حيث كانا قد أوقفا سيارتهما بقرب المكان الذي أوقفت فيه سيارتي، لبعده عن مجامع الزحام المشهورة .. فأخبرته أن جوف الجامع قد امتلأ! وقد أعلمني فيما بعد أنه صلى مع الجموع الكبيرة التي بلغت في صفوفها - تحت الشمس الحارقة - قريبا من أسواق الثميري جهة الشرق!
5) صلينا الظهر، وأمّنا في الصلاة نائبُ سماحة المفتي في إمامة الجامع الكبير، زميلُنا الشيخ الصالح - نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا - الدكتور عبد الله بن عبد العزيز آل الشيخ إذ لم يتمكن سماحة المفتي العام من القدوم لمدينة الرياض مع محاولته لذلك، لالتزامه بعدد من المواعيد الرسمية السابقة في مدينة الطائف فصلى عليه صلاة الغائب بمسجد الإفتاء هناك.
ثم أعلن شخص لم يتبيّن لي من هو: أننا سنصلي على جنازة العلامة الشيخ عبد الله بن جبرين، وخنقته العبرة، وتحشرجت الكلمات في مخارجها، وأكمل - بصعوبة - ذِكْرَ اسمِ جنازة أخرى لم أتبينها .. وتأخرت الصلاة بضع دقائق، وعلَت أصوات بعض المنظمين في الجامع، ولم أشاهدهم، لكني عرفت صوت أخينا إبراهيم بن عبيد، وهو من المشرفين على الجامع، حيث كان يوجه بعض الناس بالابتعاد عن الإمام ليتمكّن الإمام من الصلاة .. وبدأ بعض الناس يجهش بالبكاء، بل قد انفجر بعضهم باكيا، وتكاثرت مرتفعة بالبكاء الأصوات، وذلك من حين كبر الإمام لصلاة الجنازة، وكان بجانبي رجل من العسكر، ذو رتبة عالية، فكانت حركة اضطراب جسده وهو يحبس البكاء تشغلني عن بعض الدعاء، و كان ينحني من شدّة ما يجد! وقد ظهر صوت الإمام بالدعاء قريبا مما لو كان يجهر بالقراءة، وربما كان السبب في ذلك: كثرة الأصوات الباكية حوله ..
¥