العرب زمن التنزيل هو دفع هواء النَّفّس ليشتعل الحطب وتتأجج النيران؛ وكَأَنَّ روحًا من الفم أوقدته وبثت في ذلك الحطب المُهَيَّأ للاشتعال حركة وحياة, فاستعيرت صورة (النفخ) لبث الملكات العقلية والحركة الإرادية في الجنين؛ وكأن الوعي والحركة اشتعال ما يلبث أن يتضاعف توقده ويتجلى تأججه, وهو من روائع التمثيل ودقيق التعبير المطابق للواقع في القرآن الكريم.
وعبارة النيسابوري المتوفى سنة 728 هـ في غرائب القرآن (ج4ص484): "ليس ثَمَّ نفخ ولا منفوخ وإنما هو تمثيل .. , ولا خلاف في أن الإضافة في قوله: (روحي) للتشريف والتكريم مثل (ناقة الله) و (بيت الله) ", وعبارة أبي السعود المتوفى سنة 951هـ في إرشاد العقل السليم (ج5ص74): " (فإذا سويته) أي صورته بالصورة الإنسانية والخلقة البشرية .. (و) سويت أجزاء بدنه .. , (ونفخت فيه من روحي) .. إنما هو تمثيل لإفاضة ما به الحياة (الواعية) ", وهكذا أيد الكثير من المفسرين أن تعبير (نفخ الروح) تمثيل للمعنوي بحسي بغرض بيان بث الحياة الواعية والحركة الإرادية؛ منهم النسفي المتوفى سنة 710 هـ في مدارك التنزيل (ج2ص241) , وأبو حيان المتوفى سنة 745 هـ في البحر المحيط (7ج ص192) , والخطيب الشربيني المتوفى سنة 977 هـ في السراج المنير (ج3ص440) , والشوكاني المتوفى سنة 1250 هـ في فتح القدير (ج4ص632) , والجاوي المتوفى سنة 1316 هـ في التفسير المنير (ج3ص42) , وقولهم بالتمثيل لبث الروح بمشهد النفخ المحسوس في الحطب يعني تفويض طبيعة الروح كأمر غيبي لعلام الغيوب.
وتتعدد في القرآن الكريم معاني لفظ (الروح) وتُبَيِّن القرائن المعنى اللائق الموافق للمقام؛ وقد يرد لوصف نعمة نفيسة, وفي قوله تعالى: ?إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ? [النساء: 171]؛ قال الرازي المتوفى سنة 606 هـ في تفسيره (ج5ص447): "جرت عادة الناس أنهم إذا وصفوا شيئاً بغاية الطهارة والنظافة قالوا: إنه روح، فلما كان عيسى لم يتكون من نطفة الأب .. وُصف بأنه روح، والمراد من قوله (مِنْه) التشريف والتفضيل؛ كما يقال: هذه نعمة من الله، والمراد كون تلك النعمة كاملة شريفة .. , (وقيل أيضا): روح منه؛ أي: رحمة منه, (كما) قيل في تفسير قوله تعالى: ?وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ? [المجادلة: 22]؛ أي برحمة منه"، ووُصِفَ القرآن كذلك بالروح على سبيل التمثيل بالمعهود الذهني الشائع في قوله تعالى: ?وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا? [الشورى: 52] , قال الراغب الأصفهاني المتوفى سنة 502هـ في مفردات ألفاظ القرآن (ج1ص421): "سُمِّيَ القرآن روحًا .. , لكون القرآن سببًا للحياة الأخروية", وقد وُهِبَ الإنسان نعمة نفيسة كذلك هي العقل؛ فنشأت المَلَكَات العقلية وهو جنين وتحرك إراديًا بعد التهيؤ بتكون الأعضاء, وفي قوله تعالى: ?وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ. ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ? [السجدة: 7 - 9]؛ قد تَلَاَزم (نفخ الروح) كتعبير عن الحركة والوعي مع بدء نشاط الوظائف الإدراكية والإرادية على سبيل التفسير كمعلم بارز في تاريخ الجنين, وأبرز معالم الوعي نشأة وظائف أجهزة السمع والبصر والجهاز العاطفي Limbic System وأبرز معالم الإرادة اتضاح الحركة الإرادية دليلا على بث الحياة الواعية, والالتفات من الحديث بضمير الغيبة (نسله, وسواه, ونفخ فيه) إلى ضمير الخطاب (وجعل لكم) يناسب تلك النقلة الواسعة.
وقد رصدت أجهزة الموجات فوق الصوتية حديثًا بعض حركات إرادية للجنين كمص الأصبع ابتداء من الأسبوع السادس عشر؛ وبعد الأسبوع السابع عشر (أربعة أشهر) تكون تلك الحركات قد اتضحت تماما نتيجة للنشاط الإرادي للجهاز العصبي, قال ابن القيم المتوفى سنة 751 هـ في كتابه التبيان في أقسام القرآن (ج1ص218) وكتابه التفسير القيم (ج11ص24): "فإن قيل: الجنين قبل نفخ الروح فيه هل كان فيه حركة وإحساس أم لا؟؛ قيل: كان فيه حركة النمو والاغتذاء كالنبات, ولم تكن حركة نموه وإغتذائه بالإرادة, فلما نُفخت فيه الروح انضمت حركة حسيته
¥