وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: ((قد تأولت جماعة من أهل التأويل من الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين (الحكمة) في قول الله تعالى ذكره:) يؤت الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خير كثيرا ((البقرة: 269). أنها القرآن، وتأولت (الحكمة) في قوله تعالى:) ويعلمهم الكتاب والحكمة ((آل عمران: 164). أنها السنن التي سنها رسول الله بوحي من الله جل ثناؤه إليه، وكلا التأويلين في موضعه صحيح؛ وذلك أن القرآن حكمة، أحكم الله عز ذكره فيه لعباده حلاله وحرامه، وبين لهم فيه أمره ونهيه، وفصَّل لهم فيه شرائعه، فهو كما وصف به ربنا تبارك وتعالى بقوله:) ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر حكمة بالغة ((القمر: 4 - 5)، وكذلك سنن رسول الله e التي سنها لأمته عن وحي الله جل ثناؤه إليه حكمة حكم بها فيهم، ففصل بها بين الحق والباطل، وبين لهم بها مجمل ما في آي القرآن، وعرَّفهم بها معاني ما في التنزيل)) ().
وأكد أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي هذا المعنى الذي سبقه إليه غيره من أهل العلم وزاده وضوحا وإشراقا فكان مما قاله: ((تأولت العلماء أن الحكمة هاهنا هي السنة؛ لأنه قد ذكر الكتاب، ثم قال: والحكمة، ففصل بينهما بالواو، فدلّ ذلك على أن الحكمة غير الكتاب، وهي ما سن الرسول e مما لم يُذكر في الكتاب؛ لأن التأويل إن لم يكن كذلك فيكون كأنه قال: وأنزل عليك الكتاب والكتاب، وهذا يبعد)) ().
أما قول برويز: إن تقسيم الوحي إلى جلي متلو وخفي غير متلو مستعار من اليهود، الأول: المكتوب، والثاني: المنقول بالرواية، فيقال له: ضللت في التشبيه بين المسلمين واليهود؛ إذ يشترط المسلمون للرواية اتصال السند من مبدئه إلى منتهاه بالعدول الضابطين، وليس ذلك عند اليهود أو عند غيرهم من أمم الكفر والشقاق.
وقد دلّ القرآن على أن هناك وحياً من الله إلى رسوله زيادة على مافي القرآن المتلوّ، قال الله تعالى:) سيقول السفهاء من الناس ما ولاّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها (فقد كانت القبلة في أول الإسلام إلى بيت المقدس فأين في القرآن النص على وجوب التوجه إلى بيت المقدس؟ لم يثبت هذا الأمر إلا بالسنة، ثم نسخت بالقرآن.
الشبهة الرابعة.
يقول عبد الله جكرالوي: ((الحض على أقوال الرسل وأفعالهم وتقريراتهم مع وجود كتاب الله علة قديمة قدم الزمن، وقد برأ الله رسله وأنبياءه من هذه الأحاديث، بل جعل تلك الأحاديث كفراً وشركاً)) ().
ويقول الخواجه أحمد الدين في تفصيل هذه الشبهة ما نصه: ((وقد وضع الناس لإحياء الشرك طرقاً متعددة، فقالوا: إنا نؤمن أن الله هو الأصل المطاع، غير أن الله أمرنا باتباع رسوله، فهو اتباع مضاف إلى الأصل المطاع، وبناء على هذا الدليل الفاسد يصححون جميع أنواع الشرك، فهل يصبح الأجنبي زوجا لمتزوجة بقول زوجها إنها زوجته، ألا وإن الله لم يأمر بمثل ذلك) إن الحكم إلاّ للّه ((يوسف:40). ().
يقال لعبد الله جكرالوي: أوجدنا أين برّأ الله رسله من هذه الأحاديث؟ وأين جعلها كفراً وشركاً؟ وكيف يبرأ الإنسان من أقواله وأفعاله وتقريراته؟ ونحن لا نفرق بين الله ورسله، بل نؤمن بالله ورسله ولا نفرق بين أحد منهم.
وأقوالهم هذه التي تفوهوا بها محض مشاقة لله ومعاندة سافرة للوحي المنزل، لأن الله دعا في كتابه إلى الإئتساء بالرسول e فقال:) لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ((الأحزاب:21).، وقال سبحانه:) وإن تطيعوه تهتدوا ((النور: 54).، فهل يقول من يصدق بهاتين الآيتين: إن اتباع الرسول e شرك.
ويظهر من أقوال الخواجه أحمد الدين أنه يرى أن الأدلة الدالة على طاعة الرسول e أدلة فاسدة؛ لأن وصف الدليل بالفساد يرجع إلى ذاته، ولو أراد فَهْمَ الناس للدليل لقال: إن استدلالهم فاسد، فالله يأمر باتباع الرسول e وهم يأبون ذلك ويَعُدُّونه شركاً.
وما الكفر والشرك إلا في الطاعة التي يُتَدَيَّنُ بها ولم يُنْزِل الله بها من سلطان، أما وصف ما أنزل الله به سلطاناً بالكفر والشرك فهو خروج عن ربقة الإسلام، ووقوع في مهاوي الضلال، فما أجرأهم على الله وأوسع حلم الله عليهم!!
¥