وروى الإمام أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك من حديث أبي قبيل قال: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص وسئل أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أو رومية؟ فدعا عبد الله بصندوق له حلق، قال: فأخرج منه كتاباً، قال: فقال عبد الله: بينا نحن حول رسول الله e نكتب إذ سئل رسول الله e أي المدينتين تفتح أولاً:قسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله e : (( مدينة هرقل تفتح أولاً يعني قسطنطينية)) ().
ففي هذه الأحاديث وغيرها كثير دليل صريح على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يكتبون الأحاديث النبوية، وقد كانت لبعضهم صحائف مثل صحيفة عبد الله بن عمرو وصحيفة جابر بن عبد الله.
هذا وقد أحصى الدكتور محمد مصطفى الأعظمي الصحابة الذين كانوا يكتبون أو كانت لهم صحف فبلغ عددهم اثنين وخمسين صحابيا ().
هذا جيل الصحابة فإذا جئنا إلى جيل التابعين نجد أن الكتابة انتشرت أكثر من جيل الصحابة فقد أوصل محمد مصطفى الأعظمي التابعين الذين كانت لهم صحائف ورسائل إلى أكثر من اثنين وخمسين ومائة تابعي ().
ولعل مرد ذلك إلى الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز فقد روى أبو نعيم أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الآفاق: ((انظروا حديث رسول الله e فاجمعوه)) ().
وأصدر أمره إلى أبي بكر بن حزم أن ((انظر ما كان من حديث رسول الله e فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء)) ().
وأما جيل تابعي التابعين فقد أخذت كتابة الأحاديث النبوية منحى آخر إذ أضيف إليها آثار الصحابة والتابعين وصُنفت على حسب الكتب والأبواب الفقهية.
وما من حاضرة من حواضر العالم الإسلامي إلا وقام علماؤها بتدوين هذه الكتب وتصنيفها، وكانت هذه الكتب مادة أساسية للكتب الستة.
قال الحافظ ابن حجر: ((ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار وتبويب الأخبار لما انتشر العلماء في الأمصار وكثر الابتداع من الخوارج والروافض ومنكري الأقدار، فأول من جمع ذلك الربيع بن صبيح، وسعيد بن أبي عروبة وغيرهما، وكانوا يصنفون كل باب على حدة، إلى أن قام كبار أهل الطبقة الثالثة فدونوا الأحكام، فصنف الإمام مالك الموطأ وتوخى فيه القوي من حديث أهل الحجاز ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين ومن بعدهم، وصنف أبو محمد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج بمكة، وأبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي بالشام، وأبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري بالكوفة، وأبو سلمة حماد بن سلمة بن دينار بالبصرة، ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم في النسج على منوالهم إلى أن رأى بعض الأئمة منهم أن يفرد حديث النبي e خاصة، وذلك على رأس المائتين، فصنف عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي مسنداً، وصنف مسدد بن مسرهد البصري مسنداً، وصنف أسد بن موسى الأموي مسنداً، وصنف نعيم بن حماد الخزاعي نزيل مصر مسنداً، ثم اقتفى الأئمة بعد ذلك أثرهم، فقلَّ إمام من الحفاظ إلا وصنف حديثه على المسانيد، كالإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعثمان بن أبي شيبة وغيرهم من النبلاء، ومنهم من صنف على الأبواب وعلى المسانيد معاً، كأبي بكر بن أبي شيبة)) ().
فسقط بذلك قول جكرالوي وبطلت دعواه أن تدوين الحديث تأخر إلى القرن الثالث.
أما قول حشمت علي: إن الصحاح الستة تأخر تدوينها إلى القرن الثالث فنقول: نعم، دونت في القرن الثالث فكان ماذا؟.
لقد تبين آنفاً أن أصولها كانت مدونة مكتوبة ()، ويظهر من مجموع كلام الرجلين أنهما ضلا في مفهوم السنة وأنهما يظنان أن السنة هي الكتب الستة.
أما تشبث جكرالوي بقوله تعالى:) ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ((التوبة: 101).
فالجواب عنه في ثلاثة مقامات:
¥