فالجواب أن يقال: إنّ العدالة التى تشترط لراواي الحديث تشترط أيضا للمتصدّي للجرح والتعديل، فإذا كان يوثّق ويضعّف حسب الأهواء والميول فإنّه يسقط فى ميزان المحدّثين ولا يحابون بهذا أحداً، فقد وُجد منهم الطعن فى آبائهم وأبنائهم لأجل الاحتياط للرّواية، أفتراهم بعد ذلك يعدّلون من انتمى إلى مذهبهم وشاركهم فكريّاً إن كان لا يستحقُّ ذلك؟. سُئل علي بن المديني عن أبيه فقال: اسألوا غيري، فقالوا: سألناك، فأطرق ثمّ رفع رأسه وقال: ((هذا هو الدّين أبي ضعيف)) () ورُوي عن أبي داود صاحب السنن أنه كذّب ابنه عبد الله () وإ ن كان لهذه الكلمة تأويلٌ مقبول، إلاّ أنّ المقصود هنا إثبات أنّهم كانوا لا يحابون أباً ولا ابناً إذا تعلّق الأمر بالدّين.
الشق الثاني من شبهتهم: وهو كون السنة ليست يقينية بسبب روايتها بالمعنى مع عدم كفالة الله بحفظها، وكثرة ما غزاها من الأحاديث الموضوعة.
يقول الحافظ أسلم: ((كل الروايات التي نسبت إلى النبي e جاءت بالمعنى ولم تأت بألفاظه عليه الصلاة والسلام … والمعروف أن تغيير اللفظ موجب لتغيير المعنى ولو يسيرا)) ().
ويقول برويز: ((اعلم أن الله عز وجل لم يتكفل بحفظ شيء سوى القرآن، فلذا لم يجمع الله الأحاديث كما أنه لم يأمر بجمعها ولا تكفل بحفظها)) ().
ويقول عبدالله جكرالوي: " بعد وفاة الرسول e بمئآت السنين نحت بعض النّاس هذه الهزليات من عند أنفسهم ثم نسبوها إلى محمّدٍ e وهو منها براء " ().
الرد:
إن النبي e حث أمته على أن ينقلوا عنه سنته ويُعْنَوْا بها ويبلِّغوها كما سمعوها منه فقال: ((نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلّغه كما سمع، فرب مبلغ أوعى من سامع)) ().
ولا شك أن أداء لفظ الحديث كما سمع هو الأولى والأجدر الذي يتحقق به دعاء النبي e لسامعه إلا أن المعنى هو المقصود الأول من الأحاديث واللفظ وسيلة، فإذا روى الراوي الحديث وأصاب المعنى قبل منه ذلك.
وقد وضع أهل العلم لرواية الحديث بالمعنى ضوابط تكفل صونه من تغيير المعنى.
قال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي: ((قال جمهور الفقهاء: يجوز للعالم بمواقع الخطاب ومعاني الألفاظ رواية الحديث على المعنى، وليس بين أهل العلم خلاف في أن ذلك لا يجوز للجاهل بمعنى الكلام وموقع الخطاب، والمحتمل منه وغير المحتمل .. فأما الدليل على أنه ليس للجاهل بمواقع الخطاب، وبالمتفق معناه والمختلف من الألفاظ فهو أنه لا يؤمن عليه إبدال اللفظ بخلافه بل هو الغالب من أمره.
وأما الدليل على جواز ذلك للعالم بمعناه .. [فهو] () اتفاق الأمة على أن للعالم بمعنى خبر النبي e وللسامع بقوله أن ينقل معنى خبره بغير لفظه وغير اللغة العربية، وأن الواجب على رسله وسفرائه إلى أهل اللغات المختلفة من العجم وغيرهم أن يرووا عنه ما سمعوه وحملوه مما أخبرهم به وتعبدهم بفعله على ألسنة رسله سيما إذا كان السفير يعرف اللغتين .. وإذا ثبت ذلك صح أن القصد برواية خبره وأمره ونهيه إصابة معناه وامتثال موجبه، دون إيراد نفس لفظه وصورته.
وعلى هذا الوجه لزم العجم وغيرهم من سائر الأمم دعوة الرسول إلى دينه والعلم بأحكامه.
ويدل على ذلك أنه إنما ينكر الكذب والتحريف على رسول الله e وتغيير معنى اللفظ، فإذا سلم راوي الحديث على المعنى من ذلك كان مخبرا بالمعنى المقصود من اللفظ، وصادقا على الرسول e ))( ) .
قال المعلمي: ((ولو قلت لابنك: اذهب فقل للكاتب: أبي يدعوك، فذهب وقال له: والدي – أو الوالد – يدعوك، أو يطلب مجيئك إليه، أو أمرني أن أدعوك له، لكان مطيعا صادقاً، ولو اطلعت بعد ذلك على ما قال فزعمت أنه قد عصى أو كذب وأردت أن تعاقبه لأنكر العقلاء عليك ذلك، وقد قص الله عز وجل في القرآن كثيرا من أقوال خلقه بغير ألفاظهم؛ لأن من ذلك ما يطول فيبلغ الحد المعجز، ومنه ما يكون عن لسان أعجمي، ومنه ما يأتي في موضع بألفاظ وفي آخر بغيرها، وقد تتعدد الصور كما في قصة موسى، ويطول في موضع ويختصر في آخر، فبالنظر إلى أداء المعنى كرر النبي e بيان شدة الكذب عليه، وبالنظر إلى أداء اللفظ اقتصر على الترغيب.
¥